لابد أن أفتتح هذه القراءة بدفقة ماتعة، أو بفقرة آسرة من الذكريات الجميلة، وبخاصة أنها تتصل بتلك العلاقة المفعمة بالتقدير والاعجاب والأنموذجية بين الأجيال.. فعندما كنا - نحن جيل الثمانينات - على مقاعد الدراسة وفي السنوات الأولى.. كان جيل الرواد الذين سبقونا - وأقصد روَّاد القصيدة المعاصرة الحديثة - كانوا ينشرون أعمالهم وإبداعهم وتجلياتهم الشعرية في الصحف والمجلات المحلية مثل: الرياض، الجزيرة، عكاط، الدعوة، ومثل: اليمامة التي كانت وحيدة في الساحة الثقافية.. أقول: كنا إلى جانب المحاضرات والمنتديات الثقافية الجامعية، نتلقى عبر الصحف تلك الأعمال التي تتلمذنا عليها، ولا أتصور أن أحداً من جيلنا لا يمتلك مذكرات غير المذكرات الجامعية سجَّل فيها قصائد مذهلة لكثير من نجوم الشعر والشعرية آنذاك مثل: أحمد الصالح (مسافر)، وعبدالرحمن الدبيان، وعلي مهدي، وعلي الشهراني.. وغيرهم.. وكان في صف المقدمة آنذاك الشاعر (سعد الحميدين)، ولا أنسى هنا أنه إلى جانب أعماله الشعرية كان يسهم أسبوعياً في الكتابة النثرية بمقال رئيس في قلب جريدة «الرياض» من ضمن كبار الكتاب آنذاك مثل: د.غازي القصيبي - رحمه الله - ود.سليمان السليم، ود.محمد عبده يماني - رحمه الله - وغيرهم.. ومجموعة «رسوم على الحائط» خلاصة شعرية معاصرة ومتجاوزة لتلك المرحلة، وأتصور أنها كتبت من منتصف الستينات الميلادية إلى ما قبل صدور المجموعة في طبعتها الأولى عام 1977م.. وأتذكر أننا قرأنا كثيراً من نصوص هذه المجموعة منشورة في الصحف المحلية وبخاصة في جريدة «الرياض» ومجلة اليمامة. ومن الصعب هنا الوقوف بشكل حقيقي مستوعب لكل شروط القراءة المنصفة أمام كافة نصوص المجموعة.. لكن سأختار هنا قصيدة اعتبرها - شخصياً - ملاك القصائد وأعتبرها أنموذجاً يعبر عن المنجز الشعري لسعد الحميدين في هذه المجموعة، وهي قصيدة (جوقة الزار) لأسباب عدة منها: 1- انها تحمل إشارات قوية إلى مقدرة الشاعر في الأداء الشعري المعاصر.. 2- أنها تعبّر عن تمكن الشاعر من تحقيق شروط القصيدة المعاصرة ومنها مثلاً توظيف المشاهد الشعبية واللهجة بشكل درامي، والتنويع في الرتم الموسيقي في كل مقطع. 3- تحقيق التفرد والخاصية سواء على مستوى المضامين أو على مستوى الصورة والتشكيل.. 4- انني - حتى الآن - لم اقرأ نصاً استلهم فناً شعبياً - وبخاصة في الشعر - بهذه الحميمية اللوعة.. سعد الحميدين وبعامة.. القصيدة صورت تجربة مهمة تتمثل في تلك المعاناة التي يمكن أن يمر بها الإنسان الراقي المثقف عندما يجيء حاملاً لغته وتجربته وتطوره ومعاصرته فيدخل في سياق شعبي موغل في قاموسه البدائي فيغترب فيه لفترة تطول أو تقصر، ثم يحوله في مثل هذه القصيدة إلى ما يشبه التجربة الجديدة أو الاضافة المعرفية.. وهنا تتمثل مدى تمكن الشاعر من هذا الاستغراق المثير.. يفتتح الشاعر قصيدته برسم مشهد الاحتفال الذي يتجسد عبره فصل (الزار) الذي هو محور النص: تدق طبول.. على أنغامها يتمايل السمار في فخر.. كأغصان يداعبها النسيم بمنتهى الحذر.. وينداح الصدى.. متقطع الوتر.. لتسمع في بقايا الليل أغنية شتائية.. تدق.. ترن.. وراء الأفق مذبوحة:- «خوفوني وأنا ما أخاف.. واحسب الضلع يزبّني..» وبعد أن رسم الشاعر المسرح المكاني والصوتي وحركات (الاستنزال).. يمسرح للمتلقي في المقاطع المتوالية من القصيدة مشاهد الزار المعروفة بشكل شعري فائق الدقة. زمجر مثل وحش حسَّ بالخطر. .................... تكوَّم فوق وجه الأرض مجذوباً يمرغ ثغره المسعور فوق أديمها الدبق .................... .................... كنار أضرمت بالزيت.. تفجرت الحناجر تبصق (اللاله).. فتهوى سواعد كالصخر.. فوق الطبل.. تنطقه.. ليبعث نغمة رعناء مسحورة.. .................... .................... فهب يدك سطح الأرض.. تبعثر ما تبقى من بساط أغبر نتن على أنغام جوقته .................... .................... تحرك.. ينفض الغبرة.. مساء الخير.. مساء النور.. وصافحهم كمن قد جاء من سفر.. .................... غريب.. جاء يبحث في بقايا البيت عن شمعه عن الدبس المعتق في الجرار.. بقرب لحود أجداده وهكذا.. وبتمام الفقرات والآثار والمترتبات جسد الشاعر من قامت به جوقة الزار في الاحتفال الشعبي بكل ما في قاموسها. على أن الشيء العجيب في القصيدة هو تمكن الشاعر من توظيف نماذج مما يقال في تلك السامريات والعرضات من أبيات الشعر الشعبي في جسد القصيدة رادماً تلك الهوة المخيفة بين منجر القصيدة الفصحى المعاصرة بشروطها الصعبة، وبين تلك الأهازيج الشعبية الموغلة في تشكيلها البدائي، بحيث لا يتمكن المتلقي من التوقف ليلاحظ ذلك الانفصام المعتاد بين التجربتين واللغتين أو اللهجتين وطريقة التشكيل والرسم بالكلمات من كافة أدواتها وآلياتها.. ولذلك تأتي هذه القصيدة متفردة من بين كافة القصائد التي عبرت عن تجارب مماثلة.. واستطيع أن اسجل هنا أن مثل هذا الانجاز الشعري يمكن أن نجده في أعمال وتجارب روائية أو قصصية، غير أنه في الأعمال الشعرية والقصائد يشير إلى اختصاص مثل الشاعر سعد الحميدين في مثل هذه القدرة على المزج والتكامل ورفع الأشياء والمشاهد العادية إلى مستويات الشعرية الفائقة.. هذه القصيدة إلى جانب كافة قصائد مجموعة (رسوم على الحائط) جعلت من هذه المجموعة ومضامينها عنواناً مثيراً في التجربة الشعرية المعاصرة لجيل السبعينات وما قبلها.. الجيل الذي أسس لشعرية معاصرة جديدة، واستحق أن يسجل في سجل الريادة لاشك.. وهذا الجيل يذكرنا بمن كان قبله من المبدعين الاستثنائيين في تجاربهم وأعمالهم مثل (حمد الحجي) و(محمد العلي) و(ناصر ابوحيمد) و(سعد البواردي) وغيرهم.. تلويحة حب وإكبار لذلك الزمن الثري ولرموزه الذين تحولوا من (رسوم على حائط المعاناة إلى أغنيات لذيذة عبر كل الأزمان والأجيال). غلاف رسوم على الحائط