موقف صغير وربما عادي جدا رغم الاثر العظيم الذي تركه في نفسي من بين مواقف كثيرة مررت بها خلال ساعتين قضيتهما في التوقيع على نسخ كتابي الجديد(سين .. نحو سيرة ذاتية ناقصة) مؤخرا، أردت اطلاع من يقرأ هذه السطور عليه. كان ذلك في سياق معرض محلي كويتي غير مخصص للكتب بل للمواد الاستهلاكية من ملابس وعطور وأطعمة وأدوات منزلية وغيرها، ولكن نادي سيدات الاعمال والمهنيات في الكويت دعى مجموعة من الكاتبات للمشاركة ضمن جناحه في ذلك المعرض بالتوقيع للجمهور على نسخ كتبهن الجدية ..وكنت منهن. كانت تجربة التوقيع على كتب في ذلك السياق تجربة جديدة وغريبة، ولعلها الاولى من نوعها. وعلى الرغم من تحذيرات بعض الاصدقاء لي من خوضي لهذه التجربة المحفوفة بمفاجآت قد تكون غير مريحة بالنسبة لي، الا اني رحبت بالتجربة بل تحمست لها، فقد كنت دائما اريد ان التقي بقراء ممن لا تكون القراءة هوايتهم الاولى ، ولا يكون الكتاب ضمن اولوياتهم بالشراء... لعل وعسى. وكان لي ما أردته من هذه ال.. لعل وعسى. بدا لي المكان اول ما دخلته صاخبا بالموسيقى والاغاني، واختلطت فيه روائح الاطعمة بروائح العطور الذكية المنبعثة من حولي في الاقسام المخصصة لكل منها. والاجواء العامة كانت ملونة..الوان .. الوان .. الوان .. في كل مكان. ليست الملابس المعروضة للبيع هي الملونة وحدها بل ان هناك الكثير من الوجوه الملونة بشكل كاريكاتيري مبهج، اكتشفت بعد قليل انها وجوه فرقة تجوب المكان لإضفاء المزيد من اجواء الفرح والمرح عليه، ولم يكتف كرنفال الالوان عند هذا الحد فحتى الاضواء التي انبعثت من اجهزة ليزر خاصة بها كانت ملونة وراقصة مما زاد من صخب المكان وفوضاه. هل قلت فوضى؟ نعم .. بدا لي الامر كذلك لأول وهلة، حتى انني فكرت بالتراجع عن فكرة التوقيع في هذا المكان، والاندماج في الجو كأي متفرج أو متسوقة. لكنني تشجعت لاتمام مشروعي عندما وجدت الطاولة المخصصة للتوقيع ..اخيرا وبعد ان بحثت عنها طويلا، وصادفني كل ما ليس له علاقة بالكتب في رحلة البحث عنها. لقد اندست تلك الطاولة الصغيرة وسط معروضات براقة من الملابس وادوات التجميل والعطورات، وعندما جلست إليها وسط بقية زميلاتي بدا المشهد غريبا عن المحيط به . مجموعة سيدات امامهن اكوام من الكتب وسط كل هذه الفوضى البراقة. لكن ما هون الامر قليلا علي أنني اكتشفت مقابل طاولتنا طاولة اخرى لبيع القهوة..معشوقتي الابدية. كانت القهوة المحمصة للتو تنشر نكهتها للبيع ،تجعلني انتشي برائحتها، وما ضاعف نشوتي اقبال الكثيرين علي لشراء الكتاب وتوقيعي عليه بشكل كبير على العكس من كل التوقعات السابقة. كنت منهمكة بالتوقيع متحمسة لنجاح فكرتي عندما اقبلت سيدة مسنة تسأل عني بالاسم، فتوقعت انها تعرفني من محيط العائلة لكنها لم تكن كذلك. رحبت بها ، فأخذت نسخة من نسخ كتابي المكومة أمامي على الطاولة ، وقلبتها بين يديها وكأنها تبحث عن شيء معين. توقفت عند الغلاف الاخير وأخذت تقرأ . لكنها سرعان ما تركت الكتاب وتوجهت لي بحديث أبهرني . قالت لي جملة واحدة وكأنها تعلق على المكتوب على الغلاف الاخير: "مثلك لا يبكي على والدته يا ابنتي" ، ثم اكملت بحديث طويل جدا ، تشرح فيه جملتها الحانية والتي يبدو انها جاءت للمعرض لتقولها فقط.. مضى الوقت وتجمعت بعض الكاتبات حولي للاستماع اليها ، وتحمست احداهن فصورتني معها بهاتفها النقال. لم اكن أرد ولم اجد ما ارد به عليها. لم اسألها مثلا عمن اخبرها عن المكتوب على الغلاف الاخير والذي صورت فيه احد مشاهد رحيل والدتي.. ولم اسألها عما اذا كانت تعرفني شخصيا ام لا، وكيف علمت بتفاصيل علاقتي مع والدتي الراحلة لتقول لي جملتها تلك بكل ذلك الحنان الهائل. لكنني عندما نفدت النسخ المكومة امامي وغادرت المعرض شعرت بامتنان شديد ..لكتابي!.