أمير حائل يدشن إنتاج أسماك السلمون وسط الرمال    المسند: طيور المينا تسبب خللًا في التوازن البيئي وعلينا اتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تكاثرها    التعامل مع المرحلة الانتقالية في سورية    جازان: القبض على شخص لترويجه 45 كيلوغراما من «القات»    بناء الأسرة ودور مراكز الرعاية الصحية الأولية    معرض الكتاب بجدة كنت هناك    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«علي العميم»..شيء من الحضور..شيء من الغياب..
نشر في الرياض يوم 31 - 03 - 2011

في الكتاب الجديد للمثقف والإعلامي علي العميم الصادر حديثًا عن دار (جداول للنشر) تحت عنوان «شيء من النقد..شيء من التاريخ / آراء في الحداثة والصحوة وفي الليبرالية واليسار» يقول الناشر في تقديمه للكتاب: «مما يشد الانتباه أن المؤلف - يعني العميم - راجع أكثر من فكرة كان يؤمن بها» ثم يردف متسائلًا «هل تراجعه ومراجعته ينُمّان عن تحول أم تطور في أفكاره؟»، ويثير هذا السؤال الذي وضعه الناشر في الغلاف الأخير من الكتاب لدى القارئ الكثير من الفضول والاستعجال في معرفة هذه التحولات والمراجعات وفحواهما، غير أنك ما أن تنتهي من قراءة معظم الكتاب إلا وتكتشف أن هذا السؤال لا يخرج عن الهدف التسويقي المكشوف، خاصة إذا استحضرت ما قاله المؤلف في مقدمة كتابه من أن الناشر فاجَأَهُ قبل أشهر برزم من مواد مُعاد طبعها وبرفقتها أصول منشورة، وطلب منه اختيار المواد التي سيتضمنها الكتاب وتقسيمها إلى فصول وكتابة المقدمة، وتلك مهمة سهلة قام بها العميم على الوجه المطلوب ما جعل كتابه مُمتلئًا بالصفحات والأوراق، أما مسألة المراجعات والتحولات التي تحدث عنها الناشر فهي محض تسويق وترويج، وفي أحسن حالاتها مشاعر مُريد أراد أن يضفي على أستاذه شيئًا من المهابة الجدلية، فالعميم على مدى مساحة الكتاب التي ناهزت السبعمائة صفحة لم يكن سوى عارض ومناقش ومُناكف لآراء غيره، صحيح أن مادة الكتاب تضمنت أفكارًا وآراءً للعميم في مسائل وقضايا فكرية وسياسية متنوعة، واتسمت معظم هذه الآراء والأفكار بالعمق والرصانة والجدة، إلا أنها في المجمل لا تخرج عن إطار التصويب والاستدراك والنقاش والاستقصاء وإبداء الرأي والاستعراض المعلوماتي، بمعنى أن العميم في هذا الكتاب لم يقدم موضوعات فكرية مكتملة يمكن أن تفصح عن تراجعات أو تحولات فكرية، كما أن الكتاب - وهذه ليست منقصة - هو عبارة عن مقالات ومشاركات صحفية نشرها العميم على مدى عشر سنوات في عدد من الصحف اليومية والأسبوعية والإلكترونية، بل إن بعضًا مما احتواه الكتاب هي مقالات لآخرين لا علاقة للعميم بها من قريب أو بعيد من نوع مقالات د.محمد الحضيف وعادل الماجد وعبدالعزيز التميمي الذين اشتركوا معه - ربما دون علمهم - بالكتابة في تحقيق نشرته صحيفة «المحايد» عن سيد قطب، فإذا به يُدرج مقالاتهم في كتابه دونما سبب وجيه إلا إذا كان يهدف من ذلك إلى المقارنة بين ما قالَه وما كتبوه.
ويقتضي قول الحق أن علي العميم واحد من أبرز المثقفين السعوديين، وربما يكون من القلائل الذين تنطبق عليهم صفة «مفكر» بمعناها الرصين وليس المبتذل، فهو إلى جانب استخداماته اللغوية الدقيقة والحاذقة في الكتابة يمتلك قدرات بحثية لاقطة ودؤوبة وفاحصة، وإذا أضفنا إلى ذلك اطلاعه الموسوعي ونهمه العميق في القراءة والاستزادة وحسه الفكري الناقد فإننا بذلك نكون أمام مثقف يُنتظر منه الكثير في الكتابة الفكرية الرصينة، إلا أنه ولِعلّةٍ يُجاهر بها كما يقول الصحفي خالد الباتلي في الحوار الذي أجراه معه في صحيفة الحياة، يعاني من مزاجية وكسل تجعله يمشي الهوينى في مسيرته الثقافية وإنتاجه الفكري، فحصيلة هذه المسيرة التي تمتد إلى الثلاثين عامًا هي كتابان يضمان معظم أو جميع ما كتبه من مقالات ومشاركات صحفية خلال هذه الفترة ، وبعض هذه المشاركات اقتضته واجباته الوظيفية الصحفية التي تنقل فيها مابين مجلة «اليمامة» وصحيفة «الشرق الأوسط» ومجلة» المجلة»، والمثقف/ العميم يكاد يكون مجهولاً لدى قطاع عريض من المثقفين الشباب أو ما يمكن تحقيبهم زمنيًا بجيل ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فنتيجة التداعيات السياسية والثقافية لهذه الحادثة وما نتج عنها من تغيرات ومراجعات في المجتمع السعودي وما فعلته التقنية الاتصالية من سهولة في تدفق وإشاعة المعلومات والأفكار، وما وفرته مواقع الإنترنت من خاصية الكتابة والمشاركة والإسهام في الحوارات الثقافية والفكرية..نتيجة لهذه وغيرها ظهر في المملكة جيل شبابي تركزت اهتماماته في الجوانب الفكرية والفلسفية، وربما يرجع عدم معرفة هذا الجيل بالمثقف علي العميم إلى خفوت نشاطه الثقافي في السنوات الأخيرة وتواريه عن الأضواء الإعلامية خاصة مع محدودية انتشار وتوزيع مجلة «المجلة» التي كانت آخر محطاته الصحفية - توقفت المجلة بنسختها الورقية قبل سنوات.
والعميم من أوائل الصحفيين السعوديين الذين أولوا اهتمامًا ملحوظًا بالشأن الفكري، فبينما كان المشهد الثقافي المحلي في الثمانينيات الميلادية يعج بمشاركات وحوارات أدباء الحداثة من الشعراء والقاصين ومناوئيهم من المنتمين للاتجاه الأدبي المحافظ، كان العميم ومن خلال أعماله الصحفية في مجلة «اليمامة » يقدم شذرات فكرية متنوعة لفتت إليه الأنظار وجعلته في ما بعد مرجعًا في القضايا الفكرية ورجالاتها، وهذا ما يشير إليه العميم صراحة في مقدمة دراسته عن د.عبدالله النفيسي، فهو يقرر أن الدافع لهذه الدراسة هو سؤال صديقه الأستاذ محمد رضا نصر الله الذي التقى بالدكتور النفيسي مصادفة في بهو أحد الفنادق بالبحرين وتبادل معه الحديث، فما كان منه - أي نصر الله - إلا أن سأل العميم عن موقع النفيسي في فكر الحركة الإسلامية فأجابه العميم كما يقول «إجابة نيئة»، يبدو أنها لم تُقنع نصر الله الذي طلب من العميم إنضاج ما قاله على نار هادئة - هكذا - وقد وعده العميم خيرًا، وعلى خلاف ما يذكره العميم عن نفسه من الكسل والمزاجية والفتور فقد شرع في إعداد دراسة تاريخية نقدية عن د.النفيسي تكبد في سبيل إنجازها - كما يقول ايضًا - عناء ومشقة، وبذل من أجلها جهدًا لافتًا حتى استطاع إنجازها ثم نشَرها مُجزأة في مجلة «المجلة»، ويبدو أن هذه الدراسة تعني الكثير للعميم، فقد تصدرت كتابه الجديد، واستفاض في الحديث عنها في مقدمة الكتاب، مشيرًا إلى الانقسام الذي قوبلت به من قبل المثقفين مابين قلّة راضية ومؤيدة، وكثرة كاثرة غاضبة، وكلاهما ينتميان إلى تيارات مختلفة دينية وعلمانية معارضة وحكومية، وهو إذْ يورد هذا الكلام بشيء من الحبور يُبدي استغرابه واستغراب المؤيدين لدراسته من عدم الرد عليه من المعارضين، وبعيدًا عن مستوى الصدى الذي لاقته الدراسة وهل تصل إلى الدرجة التي أوردها العميم فإن الاهتمام الذي وجدته الدراسة يعود في جانب كبير منه إلى «الكاريزما» التي يتمتع بها د.النفيسي من جهة وإلى الشهرة التي أصابها في ذلك الحين من جهة أخرى كما يقرر العميم ذلك في قوله: «على الرغم من ذيوع اسم عبدالله النفيسي في منطقة الخليج والجزيرة العربية خصوصًا لدى تياراتها السياسية والدينية والقومية والماركسية وذلك من أواخر السبعينيات» إذن فلا غرابة والحال هذه أن تحظى هذه الدراسة التي استقصت نشأته وتنقلاته وتغيراته بشيء من الاهتمام والاختلاف في التلقي بين المهتمين بالشأن السياسي والفكري، طبعًا هذا لا يعني أنني أُقلّل من أهمية الدراسة وقيمة الجهد المبذول في إعدادها، فهي والحق دراسة متعمقة وشاملة ولم تقتصر على تحليل شخصية د.النفيسي من خلال مواقفه وأطروحاته وإنما تعقبت نشأته ومراحل حياته ابتداءً من دراسته الابتدائية في كلية « فكتوريا المعادي» بجمهورية مصر مرورًا بمراحل دراسته الجامعية في لبنان وما بعد الجامعية في المملكة المتحدة وليس انتهاء بعمله في جامعة الكويت، وقد يجد د.النفيسي في هذه الدراسة من المعلومات وتنظيمها وترتيبها ما يجعله مُمتنًا للعميم على هذا التقصّي التاريخي الدقيق، فبتحوير بسيط وحذف للجوانب السلبية يستطيع النفيسي أن يصنع من هذه الدراسة سيرة ذاتية تبجيلية لحياته وسيرته المهنية والفكرية.
والكتاب بمواده المتنوعة وما احتواه من أسماء وسجالات ومطارحات فكرية يأخذ قارئه إلى أجواء من المتعة والفائدة، وللأمانة فقد استمتعت بقراءة معظم فصول الكتاب، وما إن انتهيت إلا وقد وجدت أنني دوّنت مجموعة من الانطباعات والتهميشات التي يرتقي بعضها إلى مستوى الملحوظات المنهجية، ومما يلفت النظر في الكتاب ابتداءً عدم توثيق تاريخ ومكان النشر للمقالات والدراسات المنشورة، فباستثناء إشارة المؤلف في المقدمة إلى أن محتويات الكتاب نُشرت في العقد الماضي (2000 - 2010م) فإن القارئ لن يجد تدوينًا دقيقًا لتاريخ النشر ما يجعل من الصعوبة أحيانًا فهم سياقات بعض الآراء.
وإذا كان العميم يعتني عناية فائقة بالتأصيل المرجعي لكتابات ودراسات الآخرين، فإنه في بعض دراساته يتنازل عن هذا الشرط متى ما دعته الحاجة لذلك، ففي الدراسة التي أعدها عن د.النفيسي يستند - في غير موقع من الدراسة - على ما يقوله الباحث ناصر الحزيمي، وإذا ما أردنا تطبيق أدوات العميم التي استخدمها تجاه عدد من الكتاب والمثقفين في مقالاته المنثورة في الكتاب، فإن مقولات الحزيمي التي أوردها في دراسته ليست أكثر من «سواليف» و«حكايات» للتسلية والادعاء، وأظن أن العميم وهو يهمّ بتمرير مقولات وروايات الحزيمي ضمن دراسته يبتسم في داخله وربما شعر في أعماقه بوخز أخلاقي، وإلا فكيف يستند على مقولات من نوع «لست متأكدا إلا أنه يخيّل لي بأني سمعت» لاحظ أن الحزيمي لا يكتفي بالقول بأنه ليس متأكدًا وإنما يعزز هذا الشك بما يصل حد اليقين بقوله «إنه يخيّل لي» وحسنًا اكتفى بهذا ولم يقل إني رأيت في المنام، وكذلك قوله «بحدود ما أعرف»، وللقارئ أن يتساءل عن مستوى هذا النوع من التوثيق المرجعي في عمل نقدي يعتبره العميم دراسة منهجية تكبّد في سبيل إعدادها المشقة والعناء !!
ولا يخلو الكتاب من آراء تستدعي النقاش، من ذلك حديثه عن تاريخ الليبرالية في المملكة (ص270) فبعد أن سخِر مُحقًا من أولئك الذين يحاولون تأصيل الليبرالية في ماضي التيارات الدينية في المملكة، يقرر أن التيار الليبرالي موجود في الماضي السعودي منذ الخمسينيات الميلادية، ويزيد على هذا القول بتأكيده أن الأغلبية الكاسحة من المنتمين إلى هذا التيار هم من المحسوبين على خط الموالاة للسلطة السياسية، وأنهم من النخب البيروقراطية ورجال الأعمال وأشياخ الأدب التقليدي، واستخدامه عبارة «الأغلبية الكاسحة» توحي أنهم من الكثرة بحيث أنهم يتوزعون إلى اتجاهات متباينة، والواقع أن القول بهذا الرأي لا يختلف كثيرًا عن الادعاء بوجود منازع ليبرالية في ماضي التيارات الدينية في المملكة، فأقصى ما يستطيع قوله المتأمل في المكونات السياسية والثقافية آنذاك هو الإقرار بوجود أفراد يتمثلون القيم الليبرالية منتثرين في قطاعات المجتمع المختلفة دون أن يكون لهم صفة التيار إزاء التيارات أو المكونات الأخرى، ويمكن مقابلة ما يقوله العميم عن وجود تيار ليبرالي في السعودية منذ خمسينيات القرن الماضي، بما يقوله بوثوقية حادة أستاذه د.عبدالله الغذامي الذي يقطع بعدم وجود هذا التيار في المملكة في مطلع العقد الثاني من المئوية الأولى للألفية الميلادية الثالثة !! نقطة أخرى تستحق التوقف في هذا المقال وهي قوله «إن تاريخ السعوديين الثقافي والعقائدي ليس واضحًا للكثيرين منا» وهو بذلك يعني أنه ليس واضحًا للمهتمين بهذا الشأن، وأعتقد أن التاريخ السعودي العقائدي حتى بالنسبة لغير المهتمين هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، أما التاريخ الثقافي وإن كان مُلتبسًا فهو أيضا ليس بتلك الدرجة من الغموض، فالخمسينيات الميلادية وما سبقها بقليل هي الفترة التي شهدت فيها المملكة قيام المؤسسات التعليمية والثقافية وصحافة الأفراد، ويمكن لأي باحث ومن خلال تتبع نشوء وحراك هذه القطاعات قراءة الاتجاهات الثقافية آنذاك بكل يسر وسهولة.
ورغم ما يبديه العميم من صرامة منهجية في مقالاته ودراساته المضغوطة - صفة المضغوطة يطلقها العميم على الدراسات التي يرى أنها قصيرة تمييزًا لها عن المقال الصحفي - إلا انه يضع مساحة واضحة للاعتبارات الشخصية فهو لا يورد اسم مثقف أو كاتب يعرفه إلا ويسبق اسمه بالصفة التي تُعبّر عن نوع العلاقة التي تربطه به، فهذا صديق وذاك زميل والثالث أستاذ، وهكذا حتى لتظن أنه يكتب رسائل إخوانية، ففي مقالته عن إحسان عباس (ص 399) أورد كلمتي «صديق وأستاذ» ثماني مرات، تارة يأتي بهما بصيغة الجمع على سبيل التفخيم «صديقنا وأستاذنا» وتارة أخرى يتواضع ويكتبهما بصيغة المفرد «صديقي وأستاذي» وهاتان الصفتان يخلعهما بكل بهاء وإجلال على أستاذه وشيخه - الأخيرة من عندي - د.عبدالله الغذامي الذي خصّه بمحاورة هادئة حانية تنضح بكثير من الرحابة والأريحية حتى ود.الغذامي يتّهمه بمجافاة الأمانة الصحفية.
وفي موضوع آخر يدافع العميم ببسالة عن د.تركي الحمد وتحولاته الفكرية، ويصف الحمد بما ليس فيه، فهو يؤكد أن د.الحمد معني بالثقافة الإسلامية، وأنه «يعالج الشأن الاجتماعي والثقافي والفكري بروحية الانتماء الإسلامي، وكان يستشهد بآي من القرآن الكريم وبالهدي النبوي الشريف «ليس هذا فحسب بل إن العميم - رعاه الله - يقرر أن تركي الحمد «ينطلق من استشهاداته بكلام الأئمة من الفقهاء والمفسرين والأصوليين القدماء منهم والمحدثين»، وبهذا يخيّل للقارئ أن د.تركي الحمد الذي يتحدث عنه العميم هو من جمهرة دعاة الصحوة الإسلامية ! وينتهي إلى القول إن د.الحمد «ليبرالي قومي إسلامي»، وللقارئ أن يتخيّل لو أن أحدا من الكُتّاب ساورته نفسه في خلع هذه الأوصاف مُجتمعة على مثقف يهواه، ماذا عسى «العميم» أن يفعل ويقول؟ لا شك أنه سيغضب ، ويشنّع على الكاتب جهله بدلالات المفاهيم ومعاني المصطلحات! والمفارقة أن العميم وفي نفس المقال يجيب عن سؤال حول السمات التي تُميز د.الحمد عن غيره قائلا: «يحتاج مني إلى إعادة قراءة لكتبه لكي يتسنى حصر سماته الرئيسة، وهذا أمر يحتاج إلى وقت»!!
ومع أنه لا يصعب في هذا الكتاب تبيّن واكتشاف الخط الفكري والانتماء العقائدي للعميم إلا أنه يُفاجئك بما لا تتوقعه، فتارة يتحول إلى واعظ يرتدي عباءة الشيخ السلفي محذرًا ونذيرًا كما فعل في مقالته عن رجال الحسبة (ص 115)، حيث يقول متحدثًا عنهم: «عليهم أن يحذروا من أن يكونوا بابًا لفتن اجتماعية، ولن يسد هذا الباب، إلا من خلال تبنيهم لواقعة الاختلاف والتعدد التي قررها الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل»، وفي موقع آخر من نفس المقال يقول «إن على رجال الحسبة أن يتذكروا أنهم دعاة إلى الخير، وآمرون به قبل كل شيء، وأن عملهم قائم على الترغيب ولا يقتصر على الترهيب، وإن دين الإسلام دين التيسير وليس دين التعسير»، وتارة أخرى يظهر بموقع الناقد الأدبي ، ففي تفسيره للمكانة التي يحتلها «أدونيس» في الثقافة العربية المعاصرة، أو ما يسميها «الشعبية الطاغية» بين صفوف القراء العرب (ص425) ينتهي إلى القول بأن مردّ ذلك إلى «حلاوة اللغة وبلاغة التراكيب وجمال سبك العبارات إلى حد الإبهار، فالعرب أمة تُطربها البلاغة ويسحرها البيان وتُرقصها العبارة ويأخذ بتلابيب عاطفتها فن القول»، وتارة ثالثة تجده يقتعد كرسي المؤرخ ويقول كلامًا كثيرًا في هذا المقام.
ومن الدراسات المنهجية الثقيلة في الكتاب، القراءة النقدية لكتاب «طاش ما طاش: ذهنية التحريم» للدكتورة بدرية البشر، فقد أجاد العميم في برهنة الضعف الذي يعتري أعمال جملة من الأكاديميين والمنتمين إلى الحقل الثقافي والفكري، وقدّم عرضًا ضافيًا وشيقًا للفوضى المنهجية التي تصبغ معظم الإصدارات العربية في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، ورغم ما تميزت به القراءة من جودة وإتقان،إلا أنها حفلت بنقاشات استطرادية أثقلت الفكرة النقدية وشطحت بها نحو اتجاهات ومسارب جانبية وهامشية.
والكتاب لا يخلو من مقالات يرتفع فيها مستوى الطرافة والتهكم من ذلك مقال تحت عنوان «بيان الكومونة» (ص305) تناول فيه العميم بسخرية لاذعة أول بيان - كما يقول - يُصدره المثقفون السعوديون تجاه القضايا السياسية، وبعد أن يثبت نص البيان مُلحقًا به أسماء موقّعِيه، ومنهم عبدالكريم العودة، صالح الأشقر، علي الدميني، عبده خال، يوسف المحيميد، فهد العتيق وعادل الحوشان وآخرون، يقرر وهو مُمدِّد قدميه أن البيان فضيحة من أوله إلى آخره وأن معرفة الموقعين على البيان بدلالات مصطلح «الكومونة» السياسي الذي ساقوه في بيانهم بوصفه حلما لهم لا تتعدى معرفة المطرب الشعبي المصري الراحل شفيق جلال به، مؤكدًا أن البيان يحتوي على أشياء ساذجة و(هبْلة) وركيكة !!
وبالنسبة لي فإن أجمل ما قدمه الكتاب هو العرض الاحتفائي لكتاب «القبليّة: عجز الأكاديمي ومراوغة المثقف» للدكتور نعيمان عثمان، فقد أسبغ العميم على المؤلف وكتابه فيضًا من المديح والثناء الذي يستأهله بجدارة واستحقاق، ومما قاله عن الكتاب أنه «يُمثّل بإطلاق ذروة العمل العلمي الثقافي النقدي في السعودية»، ، والصحيح أن د.نعيمان يستحق ما جاد به عليه العميم من ثناء وإطراء، فهو باحث جاد وعميق ويملك آلية منهجية بحثية رصينة، وكتابه عن القبليّة يمثل بالفعل علامة فارقة في الإنتاج الثقافي النقدي السعودي الحديث.
وفي هذا الكتاب لا يترك العميم شاردةً أو واردة لها علاقة به إلا وأدرجها ضمن كتابه سواء كانت تلك الشاردة والواردة من مقالاته ودراساته أو كانت لغيره، فقد جاد على الذين اشتركوا معه في التعليق على قضايا مختلفة بنشر مشاركاتهم وتعليقاتهم، ناهيك عن المقالات التي تُثني عليه وعلى إبداعه، من ذلك مقال الكاتب والباحث في الفكر الإنساني والاجتماعي عبدالله المحيميد الذي نَشَره تحت عنوان «علي العميم والطرح السيري» واعتبر فيه دراسة العميم عن د.النفيسي بمثابة سَبْق في حياتنا الثقافية والصحفية.
وأخيرًا فإن المثقف علي العميم بإصدار هذا الكتاب في هذا الوقت وفي مناسبة معرض الرياض الدولي للكتاب يسجل حضوره الواثق في المشهد الثقافي المحلي حتى وإن كان من خلال عرض بضاعته القديمة، وفي الوقت نفسه يؤكد استمرار غيابه عن تسجيل اسمه في إصدار يحتوي موضوعًا فكريًا واسعًا يتناسب مع موهبته وقدراته، فما احتواه هذا الكتاب لا يتجاوز ما وصفه الناشر ب «شذرات وإشارات عن تيارات الحداثة والصحوة، ولمحات من التاريخ الثقافي والأيديولوجي للسعودية»، وبالتأكيد فإن المقالات والدراسات الصحفية لا يمكن لها إلا أن تكون كذلك مهما توافرت لها من عوامل الرصانة المعرفية والمتانة العلمية.
علي العميم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.