يمكن القول بأننا أمام مصطلح جديد : فساد ثقافي . مفهوم ملفت, ربما ولكنه يعكس استشراء حالة الفساد في عالمنا العربي التي طاولت شتى أنواع المجالات , فاختلاس المال العام لا يختلف كثيرا عمن ينافق صاحب القرار , لأن المحصلة الإضرار بالمصلحة العامة للوطن وخيانة الأمانة لعل من أبرز إيجابيات الثورات الاحتجاجية التي رسمت معالمها في كل من تونس ومصر وليبيا، أنها كشفت لنا عن صور جديدة من الفساد. جاء ذلك في وقت عصيب تحول خلاله بعض المثقفين والمبدعين والفنانين إلى صور وأشكال وقوالب متلونة. ركنوا فيها إلى الافتعال والخداع والبحث عن المصلحة ، فمن كان داعما ومؤيدا للنظام طيلة سنين طويلة، لم يلبث أن تحول بقدرة قادر إلى معارض له في اقل من يومين . طبعا أنا لا اعترض على أحقية الإنسان في التعبير عن رأيه، أو في تغيير قناعاته في مرحلة من المراحل لاسيما عندما تتكشف أمور جديدة،أو أن أقلل من ضخامة تلك الأحداث وأهميتها في تغيير المشهد السياسي في العالم العربي وبالتالي تبدل الآراء حوله . إنما ما اقصده هو مسألة التناقض والتلون السريع ، فمثلا كان هناك من يدعم النظام علنا آنذاك دون أن يشير إلى قصوره أو عيوبه أو نواقصه متى ما تبين له ذلك ، ثم حينما سقط النظام جاء نفس الشخص ليكيل له الشتائم والسب دون أن يذكر ولو شيئا من محاسن أو إيجابيات النظام الفائت. هذا النموذج بالتأكيد يعكس موقفا منافقا ومن خلفه دوافع انتهازية وانتفاعية، ولذا صار من العسير جدا أن تجد أحدا من هؤلاء من يتمسك بموقف صادق أو بكلمة حق؛ حيث سرعان ما ينقلب للاتجاه الآخر وبزاوية معاكسة، لتفضح حقيقة هذه الذات المغالية في الانتهازية وبيع الضمير.. وهنا يمكن القول بأننا أمام مصطلح جديد : فساد ثقافي . مفهوم ملفت, ربما ولكنه يعكس استشراء حالة الفساد في عالمنا العربي التي طاولت شتى أنواع المجالات , فاختلاس المال العام لا يختلف كثيرا عمن ينافق صاحب القرار , لأن المحصلة الإضرار بالمصلحة العامة للوطن وخيانة الأمانة , فموظف الدولة والمثقف كلاهما له دور يؤديه في المجتمع. ولكن كيف نُقيّم هذا الدور من الناحية الأدبية والأخلاقية؟ بالتأكيد هناك ثمة علاقة ملتبسة تبدو ظاهرة للعيان عند الحديث عن دور المثقف وعلاقته بالسلطة؛ حيث تنزع تارة إلى الغموض والى الاصطدام تارة أخرى، كون الأرضية التي ينطلق منها هذا الطرف أو ذاك تستند إلى معايير مختلفة أو متباينة ما ينتج عنها ذلك اللبس الفاضح. على أن هذه المعايير تعني في ما تعني مصالح ورغبات هذا الطرف أو ذاك، ما يجعلنا نقول إن المعضلة هنا تكمن في أنها ذات أساس اجتماعي قبل أن تكون المسألة سياسية، بمعنى أن حقيقة الصراع ذات جذور اجتماعية، هذا إذا عدنا إلى التاريخ، وهذه مسألة يطول شرحها. غير أن ما يعنينا بالتأكيد هو دور المثقف، حيث لا يمكن إغفال التأثير الذي يفرزه من خلال ما يطرحه، لأنه هو، ومن خلال موقعه الاجتماعي يحتم عليه أن يكشف عن (الحقيقة) أو محاولة كشفها متى ما وجد إلى ذلك سبيلا، وان يعرضها بتجرد وموضوعية، لأنه يحمل رسالة نزيهة إن ارتهن إلى الموقف القيَمي، كون غايته تكمن في الإصلاح وكشف الخلل.. غير أن المعضلة تكمن في عوائق مؤداها غيابٌ لمفاهيم الديمقراطية وضمانات حقوق الإنسان ، فضلا عن هشاشة مؤسسات المجتمع المدني. هذا الغياب أنتج معادلة مؤداها السلطوية والسلبية في عالمنا العربي ، فكانت الأولى هي سلاح بعض الحكومات، بينما الأخيرة لا زالت شعار بعض الشعوب، وبالتالي هي إلى الاستسلام أقرب. وإن كانت تلك المعادلة كما يبدو في طريقها إلى التغيير آخذين في الاعتبار تداعيات الثورات الشعبية التي جرت في تونس ومصر وليبيا.. وفي ظل هذا السياق، لابد لنا أن نبحث عن دور المثقف وعلاقته بالسلطة ؛ حيث لا يمكن إغفال التأثير الذي يفرزه من خلال ما يطرحه من آراء، إلا أن الخطيئة تحدث عندما يتحول الكاتب إلى بوق للسلطة واقفاً معها ومبرراً مواقفها على الدوام، وهنا، تحديداً ، فإنه يرتكب جرماً لا يقل خطورة عن الجرم المادي. لأنه بكل بساطة ، لم يخن الأمانة فحسب، ولكنه فقد شرعيته، لأنه هنا يداهن السلطة لتحقيق مصلحة ذاتية أو فئوية بغض النظر عن مشروعية هذا الوصول، كما انه في ذات الوقت يخدع صاحب القرار، لأن القرار فردي في ذاته، ولكن تأثيره ونتائجه جمعية. وهذا يدفعنا إلى القول إن الكاتب الحقيقي هو الذي يستند إلى معيار واضح لرؤيته ذات التحليل الموضوعي، من دون الارتهان إلى أيديولوجيا معينة، ولذا فإن المعطيات والواقع والتحولات هي ما يجب أن يستند إليه الكاتب المحايد، وبالتالي هي من تحدد موقفه من هذه القضية أو تلك، وليس الايديولوجيا أو الخوف من السلطة أو المجتمع. إذن الغاية هي إدراك حقائق الأشياء كما هي وليست كما نريد لها أن تكون، وهذا هو الاختلاف بين القراءة العقلية، والقراءة الوجدانية، فالإنسان المحايد الطبيعي ينشد معرفة الحقيقة ويتوق إليها بغض النظر عن محتواها ونتيجتها. كما أن المبدع يرتبط بإنسانيته، وبالتالي يلتصق بتطلعات وأحلام الشعوب. وكونه يستخدم النقد كوسيلة في تكوين الآراء والتأثير في قناعات الناس ، فإنه يفترض أن يبتعد عن ترويج سياسات السلطة القمعية أو ما يحقق له فوائد ومصالح شخصية. ومع ذلك صار البعض من مثقفي العرب، كما رأينا في الحالتين التونسية والمصرية، أنهم لم يعيروا اهتماما للقيم والمبادئ، ونزعوا للبحث عن مصالحهم والتوجه مع التيار العام، ما يعني الهروب من المعالجات الموضوعية للحدث وبالتالي الهروب من المواجهة، مع أن العقل يرفض الانتهازية، والمبادئ تصطدم مع النفاق والفساد والسلبية. إن الحل يكمن في اجتثاث هذا الفساد بالعلاج الذاتي، أي يتعين على هؤلاء وغيرهم من المثقفين، أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ويتحلون بالشجاعة الأدبية في إعلان قناعاتهم والتمسك بمبادئهم بغض النظر عن نتائجها ولمصلحة من ، لأنهم يحملون رسالة يفترض أن تكون نزيهة وصادقة وشريفة تبحث عن الصالح العام، لكن ما لم تُتخذ هذه الخطوة من قبلهم ومن غيرهم، فإنه لا يمكن لنا كسر أغلالها، وستبقى المعادلة قائمة شئنا أم أبينا وهذه أزمة الأزمات بكل حق إن أردنا الحقيقة..