"بونابرته باعني عند أول ناصية صادفته في الطريق، وذهب إلى تلك الفرنسية الشقراء، كدت أبكي بعد أن استمعت إلى هذا الكلام، وفكرت في حال أبي وحال بيتنا كله وما صار فيه بسبب دخول الفرنسيس، لقد انقلبت حياتنا رأسا على عقب، وأصبحنا نرى الدنيا وكأنها غير الدنيا التي نراها". هذه الفاصلة في منلوج بطلة نوفلا سلوى بكر "الصفصاف والآس" الهيئة المصرية العامة للكتاب، تبني عليها الكاتبة سرد المفارقات في حكاية الغزوة النابلويونية لمصر. لغة وموضوع الرواية ليستا على مبعدة من كتاب عبدالرحمن الجبرتي، المؤرخ الذي قل نظيره في عصره، حيث استطاع في سفره "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، تسجيل وقائع الزلالزال الذي هز مصر بعد حملة نابليون، الحملة التي بقيت إلى اليوم موضع سؤال حارق: هل كانت وراء اليقظة المصرية التي امتدت إلى العالم العربي، أم انها أدخلت مصر عصر الاستعمار الغربي؟ وتصح على مثالها كثير من غزوات الغرب للشرق، مع فارق هو عشق نابليون لمصر وتاريخها، حيث جلب معه خبراء في كل الحقول، ليحدث الانتقالة التاريخية التي استثمرها محمد علي في بناء الدولة الحديثة. حاولت سلوى بكر في قصتها الطويلة "95 صفحة من القطع الصغير" الإطلالة على موضوعها من كوة صغير، عبر سيرة ابنة احد الأعيان المسلمين المتصلين ببونابارت. وبحجة تعلمها الفرنسية والحياة الجديدة التي يعجب بها، يسمح الأب لفتاته الذهاب إلى قصر قائد الحملة، ويسكت على معرفته بعلاقتها بنابليون نفسه. ولكنه في نهاية الأمر وبعد انسحاب نابليون، يرميها بين يد الشباب الوطني كي يقتلوها قصاصاً لفعلتها. تخييل الشخصية ينطوي على بُعد يمكن توظيف رمزيته على نحو مباشر، بما يعنيه نموذج المرأة من إشارات إلى مصر بمجموعها، كما يمكن الدخول إليه من باب حكاية من حكايات الغزو الحقيقية، حيث اغتال الوطنيون مجموعة من النساء خلال انسحاب الفرنسيين، بعد أن ساعدهن المثال الفرنسي على التحرر من قيود المجتمع القديم، فخرجن سافرات، كما اتحيت لعدد منهن فرص التوظيف والدخول في مشاريع وصداقات مع الغربيين. زينب البطلة تعيش وعائلتها ضمن تقاليد الشرق القديمة، وتحدث الحملة الفرنسية الارتباك في كل مفاصل حياتهم، فيعجب الأب وابنه الشاب بما جلبه نابليون من مكتشفات وعلوم وفنون، من دون تخلي الأب عن أنماط السلوك والأفكار والمعتقدات القديمة، وتكتشف الصبية الأمية الساذجة، عبر المشاهدة والمعايشة، ما يثقل حياتها من مظاهر، بما فيها عبودية الحب عند العرب، فهي تعيش في عصر الحريم، وجواري أبيها وزوجاته بمن فيهن أمّها السيدة، مجرد عبدات في قصره. فتصبح الحياة الفرنسية التي تشاهدها هي البديل الذي تحلم به، ولكن حلمها ينتهي باستبدال نابليون وصالها بوصال فرنسية جميلة. إذن هي لم تكن في عرفه سوى جارية من نوع مختلف. صوت الفتاة يسرد لحظة من لحظات الأزمنة المتحركة، فهي في مفصل التحول بين زمن السكون المثقل بطقوس وملابس وعادات مكّبلة، وزمن التخفف من أعباء الحياة كما شاهدته عند الفرنسيات. ولكن استغراق السرد في وصف ديكور العالم الخارجي، من ملبس ومشرب وطريقة سكن، قرّبها من عالم المسلسلات التلفزيونية. ما راهن عليه السرد، هو الكيفية التي تصبح وجهة النظر البسيطة، السرد الشفاهي بصوت مراهقة ساذجة، قابلة للتحول إلى اشارات تصل القريب بالبعيد من المعاني. حاول خطاب الرواية مقاربة الصراع بين عالمين لا يلتقيان، فالكفار حسب تسمية المصريين للفرنسيين، يصبحون وفق الحكايات الشعبية المتناقلة، مسوخاً شيطانية، ودخولهم مصر يشكل الارتطام الأول بحقيقة بقيت غامضة إلى النهاية، حقيقية إنسانيتهم التي كانت موضع اختبار لم ينجح فيه الفرنسيون في تغير وجه نظر المصري عنهم، ولكنهم نجحوا في تغيير وجه نظر المصري عن نفسه. هكذا بمقدورنا الانحياز الى الرواية، فسؤال الاختلاف بين المسلمين والكفار، سؤال مركزي، يقبع خلف كل التصورات التي تحكم تصرف أبطال الرواية. الأم التي تشكل الجبهة الأقوى ضدهم، ترى في اللقاء بهم كارثة ينبغي التحصّن منها، ولكنها تُرغم على أن تولم لهم في بيتها، لأنها لا تستطيع مخالفة أمر زوجها: "أمي قالت إنهم من أنجس الكفار. يقال إنهم لا يبالون بكشف العورات وأنه متى دعت أحدهم الحاجة قضاها في أي مكان اتفق ولو بمرأى الناس. ويذهب كما هو من غير استنجاء ولا استجمار، وهم يطأون ما تيسر لهم من النساء ويحلقون لحاهم وشواربهم معاً وكأنهم من الغلمان المرد" والأب الذي يتعاون معهم من أجل مصالحه، والأخ المعجب بهم، والفتاة التي وجدت نفسها في مرآة قائد الحملة. فهي سمراء ونحيلة ولا يقربها خاطب، يكتشف نابليون جمالها، فتسترجع ثقتها بنفسها وبقيمة الجمال الذي لا يقدره أبناء ملتها. النسق العام للمجتمعين المختلفين، الذي تحاول الرواية محاكاتهما، أو نقل شذرات من ملامحهما، يتبدى في صيغة الإضمار في بنية خطاب القص الذي يتجه الى طرح التصور المصري الشعبي عن الفرنسيين، ولكن هذا التصور، على نحو ما متورط في معرفة العالم المخالف لعالمه. لعل سذاجة الفتاة تحقق وجهة النظر المحايدة، فالذات غير العاقلة، لا تخفي دوافعها بما فيها الحب والكراهية، وقلة درايتها تقوم بدور في الرواية كي تمكّن القاريء من سد الفجوات في معرفة نوع الاختلاف بين جنس الوطنيين وجنس الكفار. مشكلة الرواية عجالتها وعدم قدرتها على تعميق مستوى السرد او الخطاب ليصل إلى حدود الإفادة الكاملة من المروية التاريخية للحدث، فهي أقرب إلى قصة طويلة تحتاج اشباع كي تكون على مقربة من الرواية التاريخية. بيد إن بمقدورنا الخروج بنتيجة تمكننا من بعض اشاراتها التي تتحدد بمقولة أساسية، وهي أن الغزوة النابليونية لم تحقق فعل الاندماج، حيث لم تستطع مصر التفاعل مع الغازي الذي يعشق تراثها، قدر ما تحيل سيرورة الفعل الى رمزيته المتمثلة برحيل الفرنسيين وبقاء ما زرعوه من بذرة، جعلت المصريين يسألون أنفسهم عن سر هويتهم التي حملت الفرنجة لمعرفة الشرق من خلالهم. كان السؤال الذي مكنهم لاحقا كي يصبحوا قبلة هذا الشرق على عهد محمد علي.