في الأندلس عرف العرب ترف الحياة ورقة الطبيعة وجمال الزهور وألوان الفراشات، وأصوات خرير المياه، فانعكس ذلك كله على أشعارهم بالرقة والعذوبة وزادهم غراماً بالجميلات، ونجد انعكاس ذلك في أشعار ابن زيدون وموشحات ابن الخطيب، وعموم الموشحات الأندلسية التي كثير منها أرق من ورق الورد وأندى من الطل على الزهر، وفي مقدمتها موشحة الوزير ابن الخطيب: «جادك الغيثُ إذا الغيثُ هما يازمان الوصلِ في الأندلس» فإن فيها من الصور الباذخة المترفة ماتكاد تلمسه بيديك وتشمه بأنفك وينقلك من مكانك والزمان إلى خميلة جميلة كلها زهور وعطور .. واليوم نختار قصيدة أندلسية قيلت في الغزل،كلها رقة وحنان، وهي للشاعر الأندلسي (ابن بقي) يروي لنا فيها تجربته مع الحبيب في ليلة جميلة : «بِأبي غزالاً غازلتْه مقلتي @ بين ! العذيبِ وبين شطيّ بارقِ وسألتُ منه زيارةً تشفي الجوى @ فأجابني بوعدً صادقِ بِتنا ونحن من الرجا في خيمةٍ @ ومِنَ النجومِ الزهر تحتَ سرادقِ حتى إذا مالت به سِنةُ الكرى @ أبعدتُه شيئاً وكان معانقي أبعدته عن أضلُعٍ تشتاقُهُ @ كي لا ينامَ على وِسادٍ خافِقِ» والبيت الأخير هو .. بيتُ القصيد .. كما يقال .. فإن فيه ابتكاراً .. وقد شاعت أبياته وذاعت في الأندلس وعارضها كثير من الشعراء، وبعضهم يحتج عليه ويصفه بالقسوة مع أن ما فعله منتهي الرقة ، فقال شاعر آخر يحتجُّ عليه : «أَبعدتهُ مِن بعدِ مازَحْزَحْتَهُ @ ماأنت عند ذوي الغرامِ بعاشق! هذا يدل الناس منك على الجفا @ إذا ليس هذا فِعْلُ صَبٍّ وامقِ إن شئتَ قل أَبعدتُ عنه أضالعي @ ليكونَ فعل المستهامِ الصادقِ أو قُلْ فباتَ على اضطرابِ جوانحي @ كالطفل مُضْطجعاً بمهدٍ خافق » ولعل مما هد مجد العرب في الأندلس، شغفهم بالترف وانغماسهم فيه حتى فقدوا صلابة الصحراء وبسالة الفرسان وسياسة الحكماء وغرقوا في عيون الحسان ..