في السنوات القليلة الماضية بدأنا نعتقد أن القومية هي محض خرافة اخترعها (ميشيل عفلق) كونه ينتمي إلى أقلية تبحث لها عن شرعية وسط البحر الإسلامي الكبير, ومن ثم تلقفها منه بعض المغامرين الطموحين من قواد الثورات العسكرية في العالم العربي كغطاء شرعي لثوراتهم , لتتحول إلى مجموعة من الشعارات والخطب والركام الإنشائي وتنغلق على نفسها كأيدلوجية انبتّت علاقتها مع الزمن أو الصيرورة أو حتى الواقع اليومي المتبدل فانتقلت من مشروع التحضر إلى سرداب الاحتضار , هذا على الرغم من تشنج عدد من الأتباع والمريدين المتعصبين من عتاة القومجية , من الذين باستطاعتهم أن يسردوا لك أفخم النظريات ويحللون أقوى البيانات حول مستقبل العالم العربي, شرط أن لاينبس أحد من المستمعين أو من هم بالضفة المقابلة بكلمة , لأنه سيكون وقتها مدججاً بمجموعة من تهم التخوين والمزايدات تتربص بمن يخالفه في الرأي أو يناقشه على أي مستوى في قضية ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ). ولعل هذا التشنج والحساسية التي أصابت حملة الفكر القومي , يرجعان إلى الحصار الذي تربص بهم عبر أكثر من جبهة، فهم من ناحية كانوا محاصرين من الحركات الإسلامية في العالم العربي (الفكر الذي سيطر على الساحة في الثلاثين سنة الماضية ) وهي الحركات ذات الفكر الأممي وأحلام الخلافة الإسلامية التي ترى في القومية فكرا علمانيا منبتّا عن جذوره الدينية . ومن ناحية أخرى ظهر مؤخرا بعض المحاضن الصغيرة في العالم العربي للفكر الليبرالي التي كانت تجد في القومية محض شعارات وضوضاء لمؤسسات عسكرية متهرئة غير قادرة على أن تستجلب الحلم إلى أرض الواقع , وغير قادرة على صناعة نهضة تنويرية للمكان وسكانه , لاسيما أن هذا ترافق مع الوجود الأجنبي في المنطقة وهيمنة مصطلح الشرق الأوسط الكبير ...الجديد. ولكن يبدو أن مكر التاريخ الهيغلي قد ظهر مع بداية عام 2011 , وكأن تلك الجثة العربية المسجاة التي تبدو بأن جميع ملامح الحياة قد فارقتها بواد غير ذي زرع بعيدة عن الضوء والحيوية , مقصاة عن هدير مركبة الانسانية المنطلقة أبداً إلى الأمام , قد بدأنا نسمع بها نبضا ونرى تململا , ودماء شابة هادرة شرعت في التدفق في العروق , والشيفرة القومية التي يبدو أنها كانت في حالة كمون بدأت ترسل ذبذبات قوية قادرة على فك أعتى أسوار الخوف والحصار , وحينما صرحت الولاياتالمتحدة بأنها عازمة على القيام بحظر جوي فوق ليبيا لحماية الثوار, سبقتها بهذا جامعة الدول العربية على لسان العربي الذي يظل متأبطا حلمه (عمرو موسى) كإعلان للاستقلال والسيادة وأن أصحاب اللسان العربي باستطاعتهم أن يعيدوا اختراع فكرة القومية العربية كحلم يخصهم وفي نفس الوقت يستشرفون الغد والمستقبل عبر مشهد ترسمه أصابع شابة متحمسة.. القومية 2011 لم تعد أيدلوجية ضحلة مغلقة على يقينها انفض من حولها سمّارها منذ سنوات طوال, بل باتت ولادات متصلة لمخاض مؤلم طويل لطالما عانى منه العالم العربي.