رابعاً: من الخطأ تصنيف هذه الجماهير التي مثلت الغالبية الساحقة المستقلة في انتماءاتها والمشاركة في هذه المسيرات، على أساس من الولاءات والقناعات الحزبية، ومن الخطأ أيضاً تقسيمها أو فرزها في جبهتين متناقضتين ومتصادمتين على أساس من التناقضات والصراعات الحزبية السائدة بين السلطة والمعارضة، فالجماهير التي خرجت هنا او هناك تمتلك قواسم مشتركة جامعة ودافعة لخروجها إلى الشارع، متمثلة في المصالح الوطنية العليا، وفي الأمن والاستقرار، ومطالب الإصلاح والتغيير والتجديد، وإن اختلف الطرفان في الآليات والوسائل السلمية الديمقراطية اللازمة لذلك. فالطرف الأول يرى هذه الآليات في التعديلات الدستورية وإجراء الانتخابات في وقتها المحدد، وهو بذلك يعبر عن مخاوفه من مخاطر دخول البلد في حالة من الفراغ الدستوري، المفتوح على مختلف التداعيات والاحتمالات السلبية الخطيرة، التي لا تنحصر آثارها ضمن الإطار الحزبي الضيق بقدر ما تصيب الوطن والمجتمع بأسره.. والطرف الآخر يتبنى نفس الشعارات الإصلاحية ومطالب التغيير السلمي، ولكنه يبحث عن ضمانات لنجاحها وشموليتها، ويرى في الحوار والوفاق السياسي آلية عملية لتحقيق ذلك. هذه الجماهير بروحها الوطنية الوحدوية الجامعة والوثابة تمكنت في هذه التظاهرات من إيصال رسالة واضحة بما تريده، وهي بالضرورة تتجاوز كافة الشعارات والاعتبارات والحسابات والمصالح الحزبية الآنية والقاصرة، نحو أبعاد وطنية استراتيجية شاملة تؤمن حاضر ومستقبل الأجيال اليمنية. لقد أعلنت الجماهير عن مطالبها وقناعاتها، وأفسحت المجال للأحزاب والنخب الحزبية السياسية في السلطة والمعارضة، لتخرج رؤوسها المدفونة تحت ركام الشعارات والمشاريع السياسية الصغيرة، وإعادة قراءة الواقع، وأحداثه وتطوراته بمصداقية وشفافية والتعاطي معها بمسؤولية وحرص، والبحث عن برامج وسياسات واقعية، وآليات عمل وطنية مشتركة.. بمقدورها الإجابة عن أسئلة المستقبل واحتياجاته عوضاً عن إضاعة الوقت وإهدار الطاقات الوطنية، في قضايا خلافية ثانوية ذات طابع حزبي، لا تمت بصلة إلى القضايا الوطنية الجوهرية. خامساً: المسيرات والاعتصامات التي تمت حتى الآن، كانت مرخصة ومنظمة بشكل مسبق ومحددة مساراتها وإطارها المكاني والزماني، وتضافرت فيها جهود الجهات المنظمة لها مع جهود أجهزة الأمن التي نجحت في حمايتها وتأمين سيرها وفعالياتها دون حوادث أو تجاوزات مخلة بالأمن، وقد نجحت أجهزة الأمن وانتشارها المكثف في عزل هذه المسيرات عن بعضها البعض بسياج أمني قوي، هذا المشهد السياسي الجماهيري، المشحون بالعواطف والحماسة السياسية والقناعات والشعارات الخاطئة المتناقضة والمتصادمة مع بعضها البعض، وجدها البعض أحد المظاهر الديمقراطية الحضارية في التعبير السلمي عن الحقوق والمطالب، أصحاب هذه الرؤية التفاؤلية اسقطوا من اعتباراتهم خصوصيات الواقع اليمني ومستوى تطوره الثقافي والسياسي، وتعقيداته الاجتماعية والسياسية، وتركيبته القبلية المتصارعة المتخمة بمختلف أنواع الأسلحة المنتشرة داخل كل بيت في الحواضر والبوادي دون استثناء، وكيف أن أبسط خلاف بين المواطنين حول قضايا تافهة يتحول إلى شجار سرعان ما تستخدم فيه الأسلحة البيضاء أو النارية.