لأول مرة أرى من يزعم الاستدلال الفقهي يذكر اسماً دون أن يورد نصه المستدّل به ومرجعه!، وهذا إما أنه جهل بمبادئ البحث العلمي أو مكابرة ومناكفة، ولا أدري هل هؤلاء يبحثون عن الحق أم يزايدون حتى على الشريعة الإسلامية وعلمائها عبر القرون بتقويلهم ما لم يقولوا؟! أواصل في هذه الحلقة "الرابعة عشرة" نقض استدلالات محرّمي الاختلاط؛ حيث وجهوا دلالة حديث أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنهما بأنه من وراء السِّتر، ونصه: (إن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب)، وليس في هذا الحديث منطوق أو مفهوم يتضمن وجود الستارة والاحتجاب عن الرجال، وكذلك ليس فيه ما يدل على إباحة الاختلاط المحرم، أو تحريم الاختلاط المباح، خصوصاً أنهم في عرفة يوم الحج الأكبر، ومن المعروف أن الحجاج في غير منازلهم وعلى دوابهم وأرجلهم، ويحصل الاختلاط بشكل عفوي، وحتى في حالة المناظرة في العلم بين الرجال والنساء فلهذا المكان والزمان ظروفه، وقد يكونون من المرافقين في الحج، ولا يحتمل النص أكبر من ذلك، وهل هناك ما يمنع هذا الحوار وغيره ما دامت المرأة متحجبة وليست محتجبة، ولو تصورنا مثل هذه الحادثة في الحج اليوم لأمكن حصولها بلا أدنى حرج. ومثله توجيه الاحتجاج بالأسواق والبيع والشراء بأنه في الطرقات وبلا جلوس وقرار، وهذا لا يسلّم به، فالمرأة تجلس في المسجد مع المصلين خمس مرات في اليوم والليلة، وحتى اليوم نراها في المسجد الحرام وقد جلست بقرب الرجال ولكن بلا تلامس وبحجاب شرعي، وللمصليات مكان منفصل ولكنه بلا حاجز بينهما إلا لمصلحة حماية قسم النساء من تزاحم الرجال. ومثله استدلالهم بما روي عن علي رضي الله عنه قال: (بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في السوق، أما تغارون، ألا إنه لا خير فيمن لا يغار)، وهذا نص على المزاحمة وهو التلامس وليس الاختلاط، ولا يجوز سواء أكان مع العلوج أم مع غيرهم، والغيرة مقصد فطري وديني، ويجب المحافظة عليها دون تطفيف ولا غلو. ومثله إقرارهم بقول أحدهم: (إن الخلوة تعلقها بمسائل الفقه ظاهر بخلاف تعلق الاختلاط، فالاختلاط لا تتعلق به مسائل فقهية تتصل بأبواب العقود والفسوخ مثل الخلوة)، وهذا اعتراف بالتفريق بينهما، وأن الاختلاط بهذا يختلف بحكمه نحو تعدد مسائله وظروفه التي تحفه بخلاف الخلوة المتفق على تحريمها، وبالتالي حينما نحرم الاختلاط بهذا الشكل المطلق فإننا نساويه مع الخلوة، ونحرّم ممارسات مختلطة أجمع المسلمون على عدم تحريمها، ولذا أقر في موضع آخر بأن الاختلاط لم يكثر الفقهاء من ذكره، وهذا دليل على أنه مباح في الأصل لطبيعة الخلقة الإنسانية، ولا يعني حدوث حالات يحرم فيها عند عدم استيفاء ضوابطه بأن تحرّم الأصل وبإطلاق الحالات، وعليه فيلزم على قولهم بأن نقول بالإباحة ثم نستثني الحالات المحرمة وليس بالتحريم ثم نستثني الحالات المباحة، ولذا فلا نسلّم بقول أحدهم إن الفقهاء مجمعون على التحذير منه، وإنما على التحذير من المحرم منه، فالاعتكاف للنساء مشروع في المسجد، فهو لا يحرم ولكنه أيضاً لا يطلق بلا ضوابط حماية للأعراض، وكذلك جهاد النساء، وشهاداتهن حيث إن تحملهن للشهادة ابتداءً دليل على اختلاطهن بالرجال وشهودهن القضية التي يشهدن عليها حين يؤدينها، وكذلك حضورهن للخصومة عند القاضي، واتباع الجنائز، وهذه أدلة أوردوها وهي ضد تحريمهم المطلق، ودون أن يردوا عليها ولو بتوجيه يلوون به أعناق الدلالات كالعادة. ومثله مجازفة أحدهم بجملة تدل على مستوى الأمانة العلمية، حينما قال: (وجميع فقهاء المذاهب الأربعة يطبقون على التحذير منه ومنعه في مصنفاتهم، ولا أعلم مصنفاً من مدونات الفقه الموسعة إلا وينص على ذلك)، وهذا التعالم يسهل سوقه ولكن يستحيل إثباته، بل إنه اعترف في نفس الصفحة بأن الفقهاء لم يذكروا الاختلاط إلا نادراً، وبرر ذلك بأمور لا تقبل، ثم يناقض نفسه بعد أسطر بأن (جميع) الفقهاء في (جميع) المذاهب (يطبقون) على ذلك!، فكيف نجمع بين نفي وجود، وزعم وجود؟! ثم استدل على صحة زعمه هذا بأن أورد مجموعة من أسماء علماء المذاهب مجردة من نصوصهم!، ولأول مرة أرى من يزعم الاستدلال الفقهي يذكر اسماً دون أن يورد نصه المستدّل به ومرجعه!، وهذا إما أنه جهل بمبادئ البحث العلمي أو مكابرة ومناكفة، ولا أدري هل هؤلاء يبحثون عن الحق أم يزايدون حتى على الشريعة الإسلامية وعلمائها عبر القرون بتقويلهم ما لم يقولوا؟! ومثله دعوى خصوصية أمهات المؤمنين بالحجاب، مع أنني لم أطلع على من يزعم ذلك، بل إن المختلفين في هذه المسألة لدينا يقولون بوجوب الحجاب، وبعضهم يوجب تغطية الوجه، وبالتالي فالاختلاط المحرم عليهن يحرم على غيرهن، والمباح لهن يباح لغيرهن، وعليه فلا أرى وجهاً للاستدلال بالحجاب والخصوصية بين المتفقين عليه، والاختلاط لا يناقض الحجاب، بل كما أسلفت في حلقة ماضية بأنه منحصر وجوبه في حال الاختلاط، وبالتالي تتحجب المرأة ولا تحتجب، وإلا فيعني عزلها عن المجتمع، ولم يقل بهذا أحد، بل هو من المسلّمات بين جميع المسلمين سوى هذه الأيام من بعض المغالين، ولذا فالاستدلال بوجوب الحجاب يعني إباحةً لازمة وهو الاختلاط، ولو وجب على المرأة أن تحتجب عن الاختلاط لما احتاجت للحجاب، وهذا تناقض عجيب لا يقبله أصغر طلبة العلم، لأن الاستطراد في الاستدلال لوجوب الحجاب وعدم خصوصيته بنساء النبي عليه الصلاة والسلام يدل على إباحة ما يُتحجب عنه وهو الاختلاط، لقوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب، ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن)، وهذا دليل على جواز الاختلاط ووجوب الحجاب في حينه، فالسؤال للمتاع هو نوع من أنواع الاختلاط، ولكنه لابد من حجاب، وأما أن يتم تحريم الاختلاط بوجوب الاحتجاب فلا يمكن فيه حصول السؤال وتعاطي المتاع، وبالتالي فمن هو الذي يصدق عليه نص أحدهم بقوله: (ومقالات كثير ممن يخوض في هذه المسألة – ويخالف النصوص والفطرة – عند أهل العلم والمعرفة مبنية على علم قليل وفهم ناقص واتباع للمتشابه وترك للمحكم )؟! وما أصدق جملة أحدهم على نفسه ولو أوردها بزعمه على غيره حين قال: (ومع توسع الأخذ بعلم الشريعة، والمناصب الدينية، والمدارس العلمية، التي تعطي الدارسين شذراً يسيراً من العلم وتصفهم بالفقه، والقلوب ليست حاضرة نحو الآخرة كحضورها نحو الدنيا، تجرأ أفراد من أولئك على القطعيات والمسلّمات، فضلاً عن ظواهر الراجحات من مسائل العلم، يوافق شهوة كثير من وسائل الإعلام، فتنشر وتذيع وتنسب للدين والعلم، وكثير من الناس لا يفرقون بين العلماء والجهال)، وأقول بدوري: لقد صدق هذا الكاتب في جملته، ولكن فتش عن الذي تنطبق عليه، فالعلم ليس بالادعاء، وإنما بالحجة والبرهان، وليس بالتعالم وتجهيل المخالفين، حين يضع الناس على ثلاث طبقات، ف(الطبقة العالية) هم: (العلماء الأكابر وهم يعرفون الحق والباطل وإن اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفتن لعلمهم بما عند بعضهم بعضاً)، فأين الناقل من هذا النص، حين لم يؤمن بالاختلاف ولم يحترم المختلفين ويبث الفتنة والتجهيل والتخوين؟! ولكن ما دامه قد جعل عامة الناس من (الطبقة السافلة) فلا غرابة عليه!؛ حيث جعل (الطبقة المتوسطة) منشأ الشر، ولا أسوأ من هذه التزكية للذات والاعتداء على الآخرين، وكل إناءٍ بما فيه ينضح. وللحديث خاتمة الثلاثاء القادم، والله المستعان..