أواصل في هذه الحلقة "الحادية عشرة" نقض استدلالات محرمي الاختلاط؛ حيث إنني لاحظت تطوراً غريباً في بعض الكتابات، فبعدما عرفنا بأن هناك ما يسمى "الجاهل" وهو الذي لا يعلم، وهناك "الجاهل المركب" وهو الذي لا يعلم ولا يعلم بأنه لا يعلم، فإنه في زماننا هذا قد خرج علينا ما يمكنني تسميته "الجاهل المكعب" وهو الذي لا يعلم ولا يعلم بأنه لا يعلم ويكابر حينما يُخبر بأنه لا يعلم، بل خرج لنا نوع رابع ويمكنني أن أسميه "الجاهل المربع" وهو الذي لا يعلم ولا يعلم بأنه لا يعلم ويكابر على جهله ويزيد عليه بأنه يرمي غيره بجهله!، ويصدق عليه: "رمتني بدائها وانسلت"، فلا تجده يستدل بدلالات سليمة فيما يزعمه، ولا يكتفي بمجرد هذا التضليل في التدليل، وإنما يزحف نحو حقوق أهل العلم في فهمهم للدلالات الصحيحة ليرميهم بالجهل، وبئس عصر يتشجع فيه الجهلة ويهاب فيه العلماء، ولذا ففي هذا الجو الغوغائي والبيئة المشاغبة تجد "تناسخ الجهل" بحيث يتسابق هؤلاء في الانتصار لجهلائهم وتجهيل الفقهاء.. وإنني لأعجب من جرأة الجاهل دون حياء، ورهبة العالم دون شجاعة في وجه هؤلاء المتعالمين المتقولين على شريعتنا الغراء، حتى تسببوا بما لا يمكن السكوت عليه، فأعراضنا نملك التنازل عن منتهكيها، ولكن عرض الشريعة لا يملك كائن من كان السكوت عنه أو المساومة عليه فضلاً عن المزايدة لجلب مصلحة أو درء مفسدة شخصية، ومن هانت عنده المسألة وقلَّت لديه الهمة فلا أقل ألا يقف في طريق حماية الشريعة وحراسها من المتسلقين على أسوارها والمتطفلين على أحكامها، ولا يعنينا مدح هذا ولا قدح ذاك، فقد قررنا القصد الشرعي وانطلقنا بالنية الخالصة بلا شرك من جواذب الدنيا الفانية. ومما لاحظته التمشيخ على الآخرين والتعالي على المخالفين ورميهم بالجهل مراراً وتسفيههم تكراراً، ومثله كمثل القائل: "كاد المريب أن يقول خذوني"؛ حيث يرمي أحدهم الآخر بالجهل بالناسخ والمنسوخ، وهذا لا خلاف عليه من حيث المبدأ، ويسلّم به إذا ثبت النسخ عند التعارض، ولكن أين هذا الاستدلال - الذي يتم تفعيله عند الجمع بين الأدلة وظهور التعارض بينها - عن تفعيل الجمع بين الأدلة حينما لا يثبت التعارض أو النسخ؟!، فكيف سيوجهون تلك الآيات والأحاديث التي تدل بمنطوقها أو بمفهومها على جواز الاختلاط ابتداءً مع لزوم تحقيق ضوابطه الشرعية؟! جميع الاستدلالات للاحتجاج على (وجوب الحجاب) هي في صالح الاحتجاج على (إباحة الاختلاط)؛ لكونه يقتضي وجوده (أي الاختلاط) حال وجوبه (أي الحجاب)، ويلزم وجوبه (أي الحجاب) حال وجوده (أي الاختلاط)، وبالتالي فهل يقول أحد بعدم وجوب الحجاب؟!، ومن يقول بوجوبه فمتى تتحجب المرأة حينئذ؟!، وهل يمكن إنكار كون "الحجاب" مقتصراً على حالة "الاختلاط"؟! فكيف إذن يحرم "الاختلاط"؟!. وإذا كان العلماء قد حرموا أن يتكلم أحد في دين الله وهو لا يعرف الناسخ من المنسوخ، فكذلك هم أنفسهم حرموا أن يتكلم أحد في دين الله وهو لا يعرف الدلالات ولا يدرك الجمع بين الأدلة، ولا يملك أدوات الفقه، ولو كان يملك آلاته كعلوم القرآن والسنة إلا أنه لا يجوز له أن يصدر الأحكام الفقهية ما دام هو غير متخصص في الفقه وعلومه ولوازمه ومقتضياته، فهذا دين الله ولا يجوز التوقيع عنه إلا بعلم وبصيرة. ومن أمثلة الجهل والتضليل ما قاله أحدهم عند سياق أمثلة الناسخ والمنسوخ حيث ذكر الخمر ثم نسخه بالتحريم ثم أورد مسألتنا قائلاً: (ولو أوردت نصوص .. الاختلاط قبل حظره لجاءت شريعة جاهلية والنصوص محمدية)، وهذا التمثيل دليل واضح على الخلط وليس الاختلاط!، إذ كيف يجعل الاختلاط كالخمر؟!، وكيف يزعم بأن الاختلاط كان مباحاً ثم نسخ فأصبح حراماً؟!، وليته يذكر لنا دليلاً واحداً على أن هذا الاختلاط جاءت أدلة بإباحته ثم جاءت أدلة بتحريمه فعدت ناسخاً للإباحة؟!، وإذا كان الجاهل بالناسخ والمنسوخ وقع في خطأ جهله بالنسخ، فإن المتعالم وقع في خطيئة الزعم بأن ما يقوله هو الشريعة، وإن كان الجاهل بالنسخ استدل بجهلٍ بنصوص محمدية، فإن المتعالم قد وقع في خطيئة تحريف النصوص المحمدية بل وتجاوزها إلى نصوص غير مقدسة فضلاً عن عدم فهمه لدلالاتها وخلطه بين شواهدها!، وإنني وإن كنت قد عجبت من جرأة الجهل هنا فإن العجب الأكبر في السكوت عنه بل الترحيب به ولو كان بدافع الغيرة، فلسنا بأغير من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وإن كنا قد عجبنا ممن يزعم أن استدلالاتنا هي من المتشابه في مقابل المحكم!، فإن العجب الأكبر حينما يُزعم بأن تلك الاستدلالات منسوخة في مقابل الناسخ!، وكما أن الأول لم يبين لنا وجه كون دليله محكماً ووجه كون دليلنا متشابهاً!، فكذلك الآخر لم يبين لنا وجه زعمه بأن دليله ناسخ ودليلنا منسوخ، وإن هذا لهو "عكس الشريعة" حقاً!، إذ لم يسبق للفقهاء أن رموا مخالفيهم بمثل هذه الردود، التي تكشف إما جهلاً في إدراك الدلالات أو مكابرة عن التسليم بها ومناكفتها، ولأول مرة أقرأ بأن "الاختلاط" كان مباحاً ونسخ فأصبح حراماً!، وليت من يزعم ذلك أن يفيدنا بارك الله فيه، وحينما يعجز فليتشجع بالاعتراف بجهله، وأنه تطفل على العلم وافتأت على الفقه من باب "اعرفوني"، وأنه تجرأ بالتوقيع عن رب العالمين بلا علم، وإن سلم في الدنيا من العقوبة، فلن يسلم يوم الموعد. وأما مسألة الحجاب فهي مختلفة عن مسألة الاختلاط، لأن الحجاب هو الذي نسخ بالفرض ولو اختلف في حدوده، بخلاف الاختلاط، ويكفي استدلالنا بالتفريق بينهما بأنه لو لم يكن هناك "اختلاط" لما كان هناك "حجاب"، ولا يكون "الحجاب" إلا عند "الاختلاط"، وبالتالي فهما متلازمان؛ بحيث إذا حصل الأول (الحجاب) فيقتضي "وجود" الثاني (الاختلاط)، وإذا حصل الثاني (الاختلاط) فيلزم "وجوب" الأول (الحجاب)، ولا يتصور حجاب بلا اختلاط؛ لأن الحجاب هو حال الاختلاط بغير المحارم، ولو سلمنا جدلاً بأن الاختلاط منسوخ بتحريمه للزم منه عقلاً نسخ الحجاب لعدم الحاجة إليه لكون الحجاب حال الاختلاط بغير المحارم، وإذا حرم الاختلاط فلن يكون هناك حالة يجب فيها الحجاب حينئذ، ولكن بما أنه وجب الحجاب فيعني جواز الاختلاط حينها من باب "المقتضيات"، كما يجب الحجاب حينها من باب "اللوازم"، وهذا دليل على الجهل العجيب والخلط الغريب بين الحجاب والاختلاط لكونهما متلازمين، وإذا انعدم أحدهما انعدم الآخر وإذا وجد أحدهما وجد الآخر. كما أن اختلاط التضام لم يبح في أي يوم من الأيام، وأما اختلاط الاجتماع فلم يحرم ابتداءً أو مطلقاً في أي يوم من الأيام، والأدلة التي يوردها المحرمون إما أنها بمعنى التضام وليست بمعنى الاجتماع، أو أنها عند الريبة، أو عند عدم استيفاء الضوابط الشرعية، أو عند عدم إمكانية تحققها، بل إن نفس أدلتهم تدل على إباحة الاختلاط كما سبق بيانه، فضلاً عن أن كل ضابط من الضوابط الشرعية يدل بمفهومه على جواز الاختلاط عند تحققه، وعلى تحريم الاختلاط عند عدم تحققه أو عدم إمكانية تحقيقه، وقد سبق لي بيان ذلك في حلقات ماضية من هذه السلسلة، وبالتالي فجميع الاستدلالات للاحتجاج على (وجوب الحجاب) هي في صالح الاحتجاج على (إباحة الاختلاط)؛ لكونه يقتضي وجوده (أي الاختلاط) حال وجوبه (أي الحجاب)، ويلزم وجوبه (أي الحجاب) حال وجوده (أي الاختلاط)، وبالتالي فهل يقول أحد بعدم وجوب الحجاب؟!، ومن يقول بوجوبه فمتى تتحجب المرأة حينئذ؟!، وهل يمكن إنكار كون "الحجاب" مقتصراً على حالة "الاختلاط"؟! فكيف إذن يحرم "الاختلاط"؟!.. (وللحديث صلة الثلاثاء القادم، والله المستعان)