تضع بعض المجتمعات كل عيوبها على الإعلام، يظنّون أن الإعلام هو الذي يفسد السلوك، وينسون أن إعلام كل مجتمع يعكس سلوكه أكثر مما يؤثر فيه، حين جاءت التقنيات الحديثة والأجهزة الصغيرة عكست بما تبثه سلوكيات مجتمعاتٍ كانت تظنّ نفسها معصومةً من الخلل ومبرأةً من العيوب؛ غير أن الإعلام وبما حمله من مستجدات تقنية حديثة كشف عن شقوق وجيوب المجتمع، فالإعلام ليس قمراً فوق المجتمع، بل هو جزء من نسيج المجتمع وفرع عن ثقافته. منذ مجيء أول وسيلة إعلامية إلى المنطقة والإعلام يُتناول بالهجوم، صار الإعلام مركزاً محورياً في الجمع والطرح الفكري والديني، ما بين محرّمٍ ومبيح، بين قادح ومادح، لكن المخيال العريض للمجتمعات وبعض التيارات المتشددة تسيطر عليه صورة "خبث الإعلام" ظننّا أن هذه الرؤية ولّت إلى غير رجعة مع تطور علم الإعلام وافتتاح أقسامٍ له وانتشار للكتب التي تتحدث عن أساس نظريات الإعلام، لكن الخطابات المتشددة بينت أن الهجوم الشامل على الإعلام لا يزال حياً. البعض منهم يهاجمون الوسيلة العادية بالجرم الجامد، ولا يدركون بدهية حيادية التقنية. الإعلام الفضائي ليس واحداً فهو يضم توجهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا جزء من مرونة الإعلام، من الممكن أن تدير به قناةً إسلامية أو وطنية أو فنية، من دون أن يكون وراءك أحدٌ بسوطه يطالبك بأن تشاهد رغماً عنك هذه القناة أو تلك. ذات الشيء يصح على الصحف، من المستحيل أن تتطابق في فكرك مع الجميع هناك دائما مساحة من الاختلاف الخلاّق والجميل بين بني الإنسان، وفي الآية القرآنية: "ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم"، لكن هناك من يريد أن تتوحّد الزوايا المطروحة في كل الصحف لتنطق برأيه، وحين يختلف كاتبٍ معهم في جزئيةٍ معينة يناصبونه الاتهام؛ يصنعون تهماً تطاول الإعلام كله من جذوره بأنه مختطف وموجّه، وبأن يداً خفية تحركه، تخيلوا أن هذا المنطق لا يزال حياً في القرن الحادي والعشرين! وحين استمعتُ إلى مقطع صوتي للقيادي في تنظيم القاعدة أنور العولقي في رسالته الأخيرة الموجهة للإعلاميين وإذا به يشترك في نفس المنطلقات التي حواها خياله عن الإعلام والصحافة مع بعض من يدّعون احترام الآراء الأخرى المختلفة! من الطبيعي أن يختلف الناس حول كثير من القضايا وحين ينتقد إنسان منهج جماعة، أو فكر تيار من التيارات فإنه لا يقصد بهذا النقد التخلي عن المرجعيات المشتركة مثل مرجعية الوطن أو مرجعية الدين، العولقي برسالته الصوتية للإعلاميين أوضح كم أن مشتركات المتطرفين فيما بينهم كثيرة، وأن المنطق المستخدم لإرهاب الكتاب والصحافيين والإعلاميين يحمل مبرراتٍ مشتركة بين المتشددين المحاربين، والمتشددين المدنيين. الإعلام فضاء لطرح التنوع، فهو مساحة مفتوحة، ومجال رحب، استطاعت كل التيارات أن تأخذ حظّها من الإعلام الفضائي والورقي هذا فضلاً عن الإعلام الجديد ومواقع الانترنت، التنوّع الذي نراه في فضاء الإعلام يعطينا درساً أن محاولة احتلال تيارٍ واحد متشدد أو غير متشدد لكل وسائل الإعلام وإرهاب المتنوعين والمختلفين يشكل ضرباً من ضروب التطرف الخطير، حين يرهب المتشدد الكتاب أو الإعلاميين طالباً منهم عدم طرح آراء تختلف مع رأيه، أو مستنكراً عليهم أن تكون لهم رؤى خاصةً حول الفكر والمجتمع والمؤسسات فإنه يقوم بذات الدور الذي يمارسه العولقي حين يهدد كل المختلفين في مناهجهم وأفكارهم وآرائهم. إن التنوع الذي يتيحه الإعلام لا ينتج الفوضى كما يتخوّف البعض، بل ينتج التعددية الخلاّقة، ويعيد إلى المجتمع حيويته ونشاطه، وحدها المجتمعات الأميّة التي تحمل رؤية واحدة حول كل شيء.. إن الإعلام يجب أن يتنوع، والتيار الوحيد الذي يجب أن تجتمع عليه هو "تيار الوطن" حين يكون الوطن ثابتاً وازناً لكل أطر التنوع وفضاءات الاختلاف، والوطنية ليست حزباً أو مؤسسات بل هي الروح التي تحيط بأبناء الوطن بكل تياراتهم وانتماءاتهم.