بالأمس القريب كنا نرى العديد من المهتمين بالشعر الشعبي من مختلف الأعمار يتحلقون حول المذياع في وقت إذاعة برنامج من البادية ، وهو برنامج يقدم تنوعاً شعريا وقصصا وما تجود به المجالس من أخبار قديمة وجديدة ، وكانوا يعرفون بالضبط موعد البرنامج بل والبرامج الأخرى من إذاعات متعددة . ولا يزال البعض يهتم بهذا ويتابعه ، ولكن هناك منافسات عديدة في الوقت الحاضر من وسائل استجدت فلم يعد المذياع هو المتفرد في الساحة الإعلامية ولو بحثنا في مضامين الفقرات التي تقدم عبر البرامج وأشعار وقصائد الشعراء أو معظم شعراء الأمس وجدناها تتخذ أفقا أوسع في تناولها ، فهي لا تهتم كثيرا بذات الشاعر بل تقفز إلى ساحة المجتمع وتتخذ منه ميدانا لانطلاقتها ، ومن هنا لامست حاجة المتلقي وتعلق بسماع ما يهمه منها . ولأنها تهمه كلها تقريباً تابع نشرها وتحرى إذاعتها وتفاعل معها وترقبها وأعجب بها وحازت على رضاه ، بل وساهمت في حل كثير من مشاكله أو صارت متنفساً تعبر عن أحاسيسه وهمومه . لذا لا يفضل أن يكون الهم في ذهن الشاعر أن يتفرد ، وأن يكون مصدر العطاء الوحيد وذلك لأنه من جهة أخرى هو نفسه في حاجة لموارد أخرى تتجه نحوه ، فكرية وأدبية واجتماعية وغيرها لتطوير قدراته ، وبالتالي فإن مشاركته الآخرين ومشاركة الآخرين له بنفس القدر تعد استمرارا لنجاحه وضمانا لذلك النجاح المتوازن ، وليس النجاح في الهيمنة أو تحييد غيره فالقمة تسع الكثيرين وتحتاج أيضا لتواجد الجميع . ويمكن أن ينسى بعض من الشعراء في خضم العطاء السخي المتوالي هذه الحقيقة . والأسوأ هو التمحور على الذات بحيث يكون الكم الذي يقدمه الشاعر وإن كثر أو حتى إن بدا بكيفية رفيعة المستوى في ذاته إلا أنه يبقى شعراً حول بؤرة صغيرة في عالم كبير وهذه البؤرة أو النواة هي الشاعر نفسه محطما بذلك تطلعات من حوله . إن الشاعر ليس نتاج ذاته مستقلا بتكوينه الشعري حتى لو ظن ذلك مع مرور الوقت ونسيان روافد مدته بالمضامين والمعاني ومكنته من القدرة وتغذى داخل تربتها لكن الحقيقة أنه نتاج الموارد الأخرى ، وهذه الموارد يحتضنها مكون المجتمع الإنساني حوله. ومما يعزز مكانة الشاعر وعطاءه اتجاهه إلى هذه التربة الخصبة التي مد فيها جذوره وامتص غذاءه ونمت من خلالها أوراقه واخضرت ، ذلك المحيط الاجتماعي الذي يحتضنه ويأمل منه الكثير ، بعيدا عن الذات إلا من خلال التعبير عن الإحساس ، أو استعارة وتشبيه يفرضهما الموقف تكون محصلتها النهائية نفع المجتمع وملامسة همومه ومشاركته . إذا فالشعر الرفيع والثمين على المجتمع هو ما لامس الهم الاجتماعي لا ما انطوى على ذات الشاعر واندفن فيه . وهناك شعراء كثر مدركون لهذه الحقيقة جعلوا من النظرة البعيدة مسارا يرسمون عبرها طريق قصائدهم ، متجاوزين النظرة ناحية موطئ القدمين ودائرة الوقوف وبالتالي يكون المعنى ضافيا والمقاصد والمضامين فضفاضة ينضوي تحتها جل المجتمع وهمومه متناسين ذاتهم حتى يكبروا في نظر غيرهم . يقول الشاعر نايف العتيبي : يالبني آدم ترى عمرك قصير لاتحسب إنّك مخلّد للأبد وين أبوبكر وعمر وابن الزبير والصحابة هو بقي منهم أحد ؟ لا تكابر أو تعاند أو تثير السماء فوقك وقيعانك جلد لو تحب الشمس أو حتى تطير من كلاليب القدر محدٍ شرد لو ملاذك قصر وفراشك حرير كل ابن أنثى قراره في لحد صل فرضك وأقضب أرضك واستخير واطلب الله لايضيّع لك جهد لاتحرّى من زمانك وش يصير لو تنكّر لك زمانك أو جحد ازرع الإحسان وابذل كل خير أجزل المعروف لاترجي مرد عاون اللي يرتجيك ويستجير ساعد المحتاج لا جاك ونشد ولا تحقْر الطيْب لو كانه يسير ضحكة حجاجك لضيفانك تسد والمراجل مثل ( أجا ) دربه عسير من رقاها يدرج اسمه بالسند صاحب الأخيار تنعم بالمسير وانبذ الأشرار وأصحاب الحسد وان بغيت الشور دوّر لك شوير لا تشير الضايع الغادي أبد انتهز زهرة شبابك ياغرير لاتطول بك الأماني والأمد العمر مثل الرحى بك يستدير كم طحن قبلك من أقوامٍ مدد والبني آدم على نفسه بصير والمثل قد قال : من جد وجد !! ويقول الشاعر سليمان بن شريم ، رحمه الله البارحة ما ذاقت النوم عيني همّ بتنجيم بفكر بهوجاس وأصبحت من غبّ السهر والونيني جسم برمّة مجرم عند حبّاس صبرت لين الصبر بيّح كنيني ولا شفت لي من جملة الصبر نوماس شابت عوارض لحيتي قبل حيني وقنعت من عقب الفوايد بالإفلاس دنياك هذي تفجع الغافليني ترفع ذنب وتطمّن المتن والراس تبدّلت هرج العرب بالرطيني وقامت تجنّس لي على سبعة أجناس رخص الحصان ورخصوا الطيبيني وغلي الحمار وما إشتبه به من الناس وقام الردي يدحم بجنب متيني وابن الحموله قام يمشي مع الساس وقلّ الرفيق وقلّوا الغانميني وكثر الحسد وأهل النمايم والأنجاس وشان الزمان وشان وجه الضميني وتغيّرت كل الطبايع والألباس والمال صار مع المره والدويني والطيب راح وقطّعت عنه الأرماس والذيب جاع وكل ثور بديني والحر برقع وأبرق الريش فرّاس وذلّ الجسور وكلّ حد السنيني وتكشيف عرض الناس هو سهمة الناس والمرجلة نسخت مع المارتيني وتعوّضوا عنها بخوصه ومكناس وصار الردي يحشم مع الحاضريني والراس ديس وخدّم الحر أبا الحاس وصار الصديق هو العدو البطيني يشرف عليك ويصبح الصبح بلاّس وطرد الهوى بختوا به المفلسيني شرّابة المصفاه طبّاخة الفاس وختام قيلي أيها السامعيني صلوا على المختار ما هل رجّاس والآل والأصحاب والتابعيني عد النبات وعد حصحاص الأطعاس وتبقى الجهة الاجتماعية هي الوحيدة التي تستقبل النتاج الشعري وتتعامل مع مخرجاته ومضامينه ، تفرزه وتحفظه تتناقله تنشره وتقومه فتقدره أو ترفضه ومعيارها مدى اهتمام الشاعر بشأنها وهمها..