يعيش الفنان طول عمره يطارد أحلامه !!. يطارد ما يود أن يبدعه «ويحاول الإمساك بذلك الحلم وبالتالي يسعى لإعطائه معنى، ويؤكد الفنان عادل السيوى : أن الوسيلة والهدف – فى حياة الفنان – هما شيء واحد فالرحلة التي تقطعها كى تحصل على ما تريد هى نفسها الغاية. ومن خلال تجارب الفنانين عرفنا أن الفنان يسعى من خلال عمله إلى معرفة تقود إلى حرية يظل يعيش على ضوئها ، يمارس العمل ناظرا من نافذته على الدنيا محتشدا بأحاسيسه الغامضة التى تساعده على تفتح وعيه على الهام غامض مثل خطوط من دخان تصعد لتبدد العدم وعدم الجدوى. فكرت فى الفنان الذى يرسم الصور.. ويحب اللوحات .. وبهذا الحب يعيد انتاج الصور مرة أخرى.. بعمق تجربته .. ويتأمل كينونته ولا ينتهي هذا الصراع إلا بتحقيق غاية الفنان بانتاج الفن. يؤكد منتج الفن عبر مشوار حياته: أن فطرة الفنان الشفافة طريقه لاكتشاف غير المرئي. وأن بحثه الدائم عن ألفة تخصه استدعاء لحداثة تخصه. وأن فهم الفنان لمجتمعه ، والإصغاء لصوت الجماعة فى هذا المجتمع مادته الإنسانية لإنتاج لوحدته. كان «ديلاكروا» شغوفا بالمعرفة ، متأثرا بما يجري فى مجتمعه .. وكان يعتبر من خلال ما يبدعه من رسوم صورة مجسدة لعصره .. جذبته شمس الشرق الواضحة الصريحة .. ومساحات الضوء المنفتحة أمام النظر على الدنيا متنوعة الأشكال فأنتقل إلى المغرب... وفى رحلته الأخيرة حدث في حياته ذلك التحول المهم ، حيث اكتشف لغة الأضواء والظلال وكيف يتم تجسيد الكائن من خلال ذلك اللون الفصيح الواضح ، وفي تلك المرحلة رسم «السلطان فى مكناس» وهو يستقبل الكونت دى مورنيه فيما يمتطى السلطان جواده المهيب بأنفة الفرس العربي الجموح بالمهابة والجلال .. وكانت مرحلة جديدة من مراحل انتاج الفنان. فى فن التصوير العربي يقف الفنان الكبير الراحل «حسن سليمان» ممثلا لاتجاه يختص به وحده ، ومن خلاله أغنى التجربة التشكيلية المصرية بذلك الانسجام بين الكائن والطبيعة. لقد اقترب حسن سليمان كثيرا من روح الإنسان ، وتحسس ألمه ومن هذا انطلق حسن سليمان ليرسم الإنسان وقد اختلطت روحه بالكائنات. رسم البحر بأتساعه .. قال لى مرة فى أحد معارضه : أن البحر يعنى أبدية لا تنتهي .. وكنت تشاهد فى لوحاته قوارب تلوذ بالشاطئ .. وبشر يأتون في شكل ظلال يحملون متاعهم.. أو نسوة بجوار النوافذ تنظر على أفق غائم ملبد بالسحب. وبالتالي ظل هذا الفنان يعيد تجسيد «الطبيعة الصامتة» أو «الموديل» أو مشهد الريف. لكن حسن سليمان انشغل طوال مشواره بالبحث عن الموديل .. كان شاغله الفورم ، والنسب الدقيقة ، والهارموني ، بالمعنى الأعمق لفن لوحة التصوير ومدها بكل العناصر المكونة للوحة وكأنه يبحث عن مثاله. كما أهتم هذا الفنان بما هو شعبي فرسم الوجوه والورود والآنية ونسوة الحارات والحارات المشرعة على القدم والنورج والثيران والعمل فى الغيطان والأوز واللون الرمادي. لكنه رسم بشكل خاص : الموديل !! كان الموديل يحتاج من حسن سليمان البحث عن الوجوه .. تلك الوجوه التي تتسم بسمات خاصة ... الفرح وربما الحزن ، الغموض وربما التساؤل.. صاحبات جسد غير أليف .. جسد يشبه ملامح صاحبته .. كان عليه فى الصور أن يستنطق الأجساد وأرواحها.. يدور فى الشوارع بحثا عنها فى مدينة تتراكم فيها السنين ، وتزدحم بالوجوه .. يبحث فى الجمالية وبين الصورين والحسينية وتحت الربع .. فى الأسواق الزحمة .. يبحث عن عطيات وفريدة وأم الخير وستهم .. عن فاطمة موديل كلية الفنون الجميلة التى عرفها حينذاك. كان حسن سليمان يبحث عن مثاله فى النموذج الشعبي للمرأة المصرية الذى كان المثال عند الفنان فى تكامل أعضائه. زار سوق الأزهر .. رأى هناك ما يبحث عنه بعد ضنى التعب وقطع المسافات .. كانت تبيع الخضار .. بنت مصرية من الصعيد .. عين سوداء ، وملامح من الشرق مفطورة على جمالها الغامض .. لحظة من سحر وفي أعطافها ذلك الغموض الذى يبحث عنه الفنان .. تدور بين الأماكن مثل فراشة بلباسها البلدي .. الطرحة والجلباب وعلى صدرها عقد من الكارم الأصفر ،والجلباب الريفي والمنديل المشغول بالورد والترتر سعى الفنان لتجسيد رؤاه. فتن الفنان بالموديل وزار السوق مرات ومرات .. يجلس على المقهي وينتظر . بعد أيام سألته : مالذى تريده؟ .. أجابها : أرسمك ؟ .. لم تفهم وأجابته : انتظرني هنا غدا .. وانتظرها . رآها قادمة ترتدي فستانا مدنيا ضيقا ، على آخر مودة .. تركت شعرها ينسدل على كتفها ،ولطخت وجهها بألوان السوق ، وحملت فى كتفها حقيبة .. لم تكن هى الموديل .. كانت أخرى .. بنت مدينة غير التى عرفها .. حين ذاك ضاع الهامة وتركها ماضيا في زحام الشارع.