من الأمثال الحجازية يقال في معرض الاستهجان بالذي لا يبرّ ذويه، أو الاستخفاف بقيمة ما يجلبه لهم، أو الضجر من المشاكل التي يتسبب بها: ( يا ما جاب الغراب لأمه )، والمعنى السائد لدى العوام أن الغربان مجبولة على الأنانية والانتهازية والفساد، لكن الأقرب إلى التفسير الصحيح للمثل رده إلى سلوك غريب لدى هذه الطيور العجيبة، خاصة الأنواع الكبيرة، فهي تندفع لالتقاط ما تستطيع أن تحمله من قطع المعادن ( انظر الصورة ) والزجاج والأشياء الصغيرة اللامعة - وهذه غالبا قطع تافهة لا قيمة لها - فتأخذها وتضعها حول أعشاشها، ولهذا أطلق المثل يا ما جاب الغراب لأمه. ولو قيل عن شخص أنه غراب البين فهو نذير الشؤم والفراق. قال قيس بن الملوح: ألا ياغراب البين لونك شاحب وأنت بلوعات الفراق جدير ويرمز في أدبيات الشعر الشعبي بالغراب لكل فعل سيئ وصفة معيبة بالإنسان كالجبن والخور وضعف الهمة، قال الشاعر: اوصيك ياللي تطلب المجد والثنا عساك في حفظ الوصاة تثاب ابذل جمايلها الى جاء لزومها ترى منعها في الملزمات عياب ترى كل طير صيدته قدر همته الحر حر والغراب غراب وقال آخر: ترى الرجال طيور يفرق فعلهم فعل العقاب على الغراب عسير الرجل عقل ومرجله وديانه بلا شك راعي هالثلاث طهير وثمة من يمعن في إلصاق صفات سيئة أخرى بهذا الطائر الأسود فيربط كل حرف من كلمة غراب بمعنى، فالغين غم، والراء ردى، و الألف أسى، والباء بؤس. ومما يذكر عن الأجداد خوفهم من رؤية هذا الكالح قرب المنزل لاعتقادهم أنه علامة مصيبة ستحل بواحد من سكانه. حتى في الأحلام تفسر رؤية الغراب بموت أحد الأقارب، أو بعار يمس الشرف، أو باعتداء اللصوص وقطاع الطرق ونهبهم للمال والممتلكات. أتفق مع من ينظر إلى ما كتبته في الأسطر السابقة في حدود الحديث عن فلكلور ليس إلا، لكن الواقع أن الغراب طائر قبيح الشكل والمشية واللون والصوت والطبع. هل سألت عزيزي القارئ، ما علاقة ذلك بجدة أم الرخاء والشدة؟ مما يتداوله الجداويون منذ زمن أن الغربان؛ المنتشرة مؤخرا في جدة بشكل لافت، لم تكن بتلك الكثرة قبل ثلاثين عاما، وأنها أي الغربان، جُلبت بأمر أمين سابق في سعي لتوطينها بحجة مكافحة الجرذان المنتشرة بين صخور الشاطئين الجنوبي والشمالي على زعم أنها تفترسها وتقضي عليها! من الصعب التحقق من دقة هذه المعلومة، لكنها متداولة كما أسلفت بين الجداويين، وقد سمعتها مرارا في أكثر من مناسبة، وشخصيا أشك في صحتها. على أي حال، خطرت ببالي هذه الأمثال والأشعار والمعاني والمقولة وأنا أطالع الصفحة الأخيرة من صحيفة عكاظ في أحد أعدادها الأسبوع الماضي ( قبل كارثة سيول الأربعاء )؛ حيث نشرت صورة طريفة لشاحنة متوقفة في أحد الشوارع كتب عليها عبارة تحذر من تزايد أعداد الغربان وخدشها لجمال منظر جدة وتسببها بقلق ضوضائي في عروس البحر، أو ( عجوز البحر ) على حد وصف ورسم المبدع ربيع في كاريكاتير نشرته الرياض بعد تسونامي الأربعاء. لاحقا دفعني الفضول إلى البحث عما وراء الصورة. هناك برنامج لمكافحة هذا الطائر في جدة رصد له قبل عامين تقريبا من الريالات أربعة ملايين ونصف، وفي ندوة حضرها أكثر من مائة شخص بعنوان ( المكافحة للغربان بين الواقع والمستقبل ) كشف مسئول في أمانة جدة حينها عن استهداف قتل خمسة عشر ألف غراب، بمعنى أن المحصلة كانت قتل الغراب الواحد بتكلفة ثلاثمائة ريال. وقبل ذلك بعامين نشرت أخبار عن توقيع عقد بخمسة ملايين ريال لمكافحة الغربان أيضا. وفي موقعها على الإنترنت نشرت أمانة جدة صفحات تشي بشغل مرتب عن برنامج المكافحة، وبرنامج آخر لتعداد هذا الطائر القبيح في سماء جدة. وليس لدي إجابة عن السؤال، هل البرنامج الأخير مستقل بميزانية أخرى؟. أكثر ما لفت انتباهي في معايير البرنامج دقة وصف حالة الطقس أيام تعداد الغربان! ولأني بدأت بمثل شعبي سأنتهي إلى مثله، فأجدادنا كانوا يقولون فيما يشبه الدعاء ( اجعلها سنة ذباب ولا سنة غراب )، فالذباب أشد ما يتكاثر في الربيع الخصب على عكس الغراب الذي يتكاثر في سنوات الجدب بسبب توافر غذائه من جيف المواشي التي تنفق بسبب الجوع فيقع عليها وينهشها. فمعنى المثل ليتها سنة خصب لا سنة جدب. أختم باقتراح للقائمين على برنامج المكافحة إذا كانوا سيعيدون تطبيقه كرة ثالثة، وتحديدا تغيير الشعار المستهلك ( بين الواقع والمستقبل ) إلى عنوان فلكلوري مستمد من الأمثال الشعبية سعيا إلى دفع أكثر من فئة للتفاعل مع الحملة، وأقصد بالمثل ( اجعلها سنة ذباب لا سنة غراب ) وليس ( يا ما جاب الغراب لأمه )!