مساء الجمعة قبل الماضي ، رحل في مكة الله محمد الثبيتي ، نسأل الله له المغفرة والرحمة ، وأن يلهم آله وذويه الصبر والسلوان ، وعزاء الثقافة فيه أنه ترك لها نصه ،وإنجازه الشعري ، على مستوى القصيدة العربية ، فاستكنه نصه تحولاتها ، وأضاءها برؤيته ، وطريقة تشكيله للنص . ذكرنا فيما مضى أن النص عند محمد الثبيتي يلتبس بعالمه ،فهو لا يشكل مفردات نصه ، ثم يكتفي بحضور النص تعبيرا عن هذا التشكيل ؛ بل يصبح عالمه ملتصقا بالذات الشعرية التي تحركه ، ويظل العالم الشعري ذا قدرة على التهيؤ للتشكل في عالم الرؤيا ، وربما وقفت على شيء من ذلك في دراسة سابقة ، ويهمني الآن أن أقف معكم على أن متخيل الثبيتي يظل في حال اشتغال ، وتوليد في الفضاء الذي يبلغه ،ولذلك لا يكتفي بالتشكيل الجاهز لرموزه الشعرية ، فلو تأملنا نصه الذي كونه في ربيع تجربته الشعرية ( ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء ) المؤرخ في رجب 1403ه ،لوجدنا عالم الرؤيا الحافل بمفردات الحركة ، والتشكيل الجديد للعالم ، الذي أضاءت معالمه أفقا تلتقي به الرؤيا ، والمدينة ، والصحراء ، والليل ، والقمر ... إلى أن يتجلى المشهد عن رعب الزنجية الشقراء ،ونداء الدهشة ، وقلق التكوين يقول محمد : كانت الرؤيا ربيعا من جحيم سندسي اللون مسفوحا على وجه المدينة المدى يجهش بالأحلام والجدران اشرأبت من على صدر المدى الناري ، كالبلور تمتد إلى جيد القمر منذ البدء غادرنا المألوف ، اللون السندسي فارق إلف تداعياته من الاخضرار ، والارتباط بالجنة إلى أن أضحى من نبع الجحيم ، ومع هذا الجحيم فالرؤيا ربيع وسندس ، والامتداد إلى وجه القمر ، ذلك الكوكب الذي يمنح الأرض الضوء والبهجة ، لأن الرؤية الشعرية مختلفة ، ترى الاخضرار في عتو التشكل ، وفجاءة مسرح الرؤيا ، فالعتو والقلق والحيرة وجبروت التغيير يرى بمآله ، من مساحات التفاؤل التي يزرعها في لون السندس ، وحلاوة الأحلام ، وصفاء البلور . نحن في هذا المشهد أمام تشكيل يجدل علاقات الحياة والمخاض والإفصاح عن تكوين جديد : كان ماذا كان ؟ للبدر عقود من عقيق وجمان كان للأرض مخاض وانتظار لحبيب قد لا أضيف جديدا إذا قلت إن الثبيتي لا يدع المشهد صامتا ، ولا يظهر ذاته في مكان المتفرج بل يضعنا في أفق الحركة ، التي يحركها مثل مخرج مسرح ينسق ويوجه الحركة ، لنستمع له حين يقول عن المسرح بعد مشهد انتظار الأرض للولادة : أغرق الضوء التفاصيل الصغيرة شق أحشاء الثواني كل شيء صخبت فيه السكينة كل شيء كسرت أجفانه البهجة حتى الجرح والآلام والأشيا الحزينة نحن أمام لحظة التجلي والنور الذي سكب فوق الأرض ودخل في أحشاء الثواني ، ولعلك تتخيل حين تكون لحظات الزمن محشوة بالنور !! هذا محمد الثبيتي حين يجدل علاقات العوالم ، لا يستسلم لهيئة المتكون ولا لعبوره ، بل يمزج علاقاتها في التشكل والحركة ؛ فيؤول هذا النور إلى نور كوني ، غطى المشهد بالسكينة والبهجة ( كل شيء كسرت أجفانه البهجة ) ، غرابة هذه الاستعارة ، وخروجها عن المألوف لا تستغرب في عالم هذه الرؤيا التي أطلت بنا على دهشة عالم جديد ؛ فالأجفان المفتوحة على أفق العذاب غاب عنها ودخلت في ظلام عنه ؛ لتستيقظ على النور ، كأن اللحظة الجديدة ، لحظة هذا الحلم ، لاتتوافق مع امتداد اللحظة السابقة فلا بد أن تكسر ؛ ليكون هذا الكسر قطيعة مع لحظة الماضي ، واستيقاظا بضوء البهجة على نورها ؛ ولذلك دخل في هذه الأشياء التي كسرت بنور البهجة ، الجرح ، والآلام ، وكل حزين ... لم يكتف الشاعر بهذا المشهد النوراني ، بل داخل تفاصيله ، وأضاء تشكيله ؛ حين استضاء مساره جعله متشكلا من الصحراء ، يقول : زورق يأتي من الصحراء ممشوقا كمارد كشهاب فصلته الريح من قلب عطارد ينبري كالهمس ، كالرؤيا .. يحلق كالنعاس جاء محمولا على موج الرمال جاء منحوتا على ريح الشمال لك أن تستحضر هذا المشهد الذي جللت آفاقه الأنوار مع هذا القادم ، مع هذه اللغة التي تستحضر وتغيب ، تقول بما ترى ، وتوحي بما لايرى ، فتأتي كلمات (ممشوقا كمارد ) ، ( كشهاب فصلته الريح ) تستحضر عنفوان هذا الحضور ، ثم تأتي كلمات ( كالهمس ) ( كالرؤيا ) ( يحلق كالنعاس ) ، تاركة للتلقي مدى واسعا تشتغل فيه البصيرة ، لتستحضر وتهدئ من جبروت هذا القادم ، فالشهاب ، والمارد ، أصبح في عالم النور في رقة الهمس ، وشوق الرؤيا ، ولطف النعاس ورحمته ؛ لينكشف قادم المشهد عن : فيه من رائحة الفردوس أسرار مضيئة ومصابيح جريئة فيه نهر من رحيق لا يزول فيه أطفال وأشباح وخوف وذهول هذا القادم من روح الجنة ، فيه قوام الحياة السعيدة ، حتى مع حضور مفردات ( الخوف الأشباح الذهول ) ، كأن هذه المفردات لا تحضر هنا إلا لتغيب في نور هذا المشهد الحالم ، أقول إن حضور هذه الكلمات جاء ليشي على حضور الذات الشاعرة التي لا تغيب في مسار التشكيل النصي ، بل تظل في حال وعي بالواقع الذي فر إليه هذا الحلم ، فراودت هذه الكلمات لحظة النور الطاغية وداخلتها في هذا الحلم ، كأنها جاءت من العقل الباطن الذي كانت حلة وعيه في لحظة هذا الحلم الذي يقول عنه : فيه أصوات تقول ليلة الحلم الطويلة ليلة الحلم الجليلة ألف عمر ألف شهر ألف ليلة لتجيء لحظات زمن هذا الحلم غير مقيدة بقيود الزمن ؛ فتتماهى الليلة في جلالها وطولها في ألف عمر أو ألف شهر أو ألف ليلة. وفي أفق الرؤيا المتفردة جاءت العنقاء التي شكلها في نصه ، على شكل لم يؤلف ، ولن أعيد هنا الجدل في مقولة ( رنجية شقراء ) ، لكن احتفظ للشاعر بتكوينه ، واحتفظ له أيضا برأيه بوصفه متلقيا في هذا التشكيل ؛ لأجاوز ذلك إلى القول الذي يمزج فيه بين الذات والمخاطب في القلق والانتظار والسؤال ، حين يقول : ( قلق الفيروز في عينيك يا عنقاء سر لا يقال قلق الفيروز في عينيك شيء من بقايا الوحي . . من ذعر الرمال )