برزت في السنوات الأخيرة جهود حكومية ملحوظة لمحاربة ظاهرة الفساد في الأجهزة الحكومية، تنبع من حرص القيادة الحكيمة من لدن خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله - على القضاء على هذه الظاهرة، فما تخلو مناسبة إلا ويتم التأكيد على هذا الأمر وأنه من أولويات الدولة كسبيل لتحقيق سيادة أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية على عمل الأجهزة الحكومية، لتحقق معها الغايات التي من أجلها وجدت وهي في المقام الأول خدمة الوطن والمواطن وتحقيق أعلى درجات العدالة والرفاهية وبالتالي المصلحة العامة المنشودة. ومن الأمثلة على هذه الجهود إقرار "الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد" بتاريخ 01/12/1428ه وما تضمنه من إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد، والتي وحتى تاريخه لم تر النور رغم الحاجة الملحة لها. والفساد كمفهوم عام يعني الانحرافات التي تتم داخل الجهاز الإداري الحكومي وتؤدي إلى صرف ذلك الجهاز عن هدفه الرسمي، الذي يفترض أن يكون لخدمة المصلحة العامة وفقاً لما نص عليه نظام إنشائه والقوانين والأنظمة السارية في الدولة. وللفساد صوره وأنواعه وكذلك أسبابه، ومن أهم أسبابه الموظف العام، فالموظف هو المعادلة رقم واحد وحجر الزاوية في موضوع الفساد. ومن مظاهر الفساد الهدر المالي في الدوائر الحكومية ونعني بالهدر هنا كل ما ينجم عنه زيادة النفقات الحكومية بحيث لا تؤدي إلى نتائج ملموسة وملحوظة، أي يتم تأدية العمل الحكومي بتكاليف أكثر مما يجب. والهدر قد يكون مباشراً أو غير مباشر، هدر مادي ملموس أو غير ملموس (هدر الوقت). وللهدر المالي المباشر صور متعددة نذكر منها مثلاً: - الهدر المالي الذي تسببه البيروقراطية المقيتة، من تعقيد الأنظمة والإجراءات. - مصروفات الإدارات الحكومية غير المبررة تحت بنود متعددة. - سوء استخدام الآلات والمعدات في الأجهزة الحكومية. - استخدام الموظفين للسيارات الحكومية للأغراض الخاصة. - سوء التخزين في المستودعات الحكومية مما يعرض المواد المخزنة للتلف. ومما يدخل في الهدر المالي ويندرج حتماً تحت مفهوم الفساد الإداري، الوقت المهدر خلال ساعات الدوام، وهي من الأمور التي لا تحظى بعناية واهتمام كافيين للبحث والتركيز. فمثلاً نلحظ عند مراجعة الأجهزة الحكومية الأبواب المغلقة لمكاتب الموظفين وانشغالهم إما بالإفطار أو تناول القهوة والشاي وتبادل الزيارات في المكاتب والخوض في الأحاديث الودية الخاصة بهم، ضاربين بعرض الحائط المسؤوليات والواجبات الملقاة على عاتقهم من وجوب تخصيص أوقات العمل الرسمية لإنجاز المعاملات ومقابلة الجمهور. ومن الهدر للوقت الخروج المتكرر أثناء ساعات الدوام تحت أي مبرر، وكذلك قراءة الصحف اليومية في المكاتب أو تصفح الانترنت دون الاكتراث بمصالح المواطنين ، مما ينجم عنه التأخر الواضح في أداء المعاملات، مستندين إلى قاعدة (العمر يخلص والشغل ما يخلص) للتهاون في أداء أعمالهم، والأمثلة كثيرة لإضاعة وقت ساعات العمل. لذا نأمل من ديوان المراقبة العامة ومن خلال واجباته في ترجمة التوجيهات السامية في محاربة الفساد وتطوير كفاءة العمل الحكومي، أن يولي الهدر المالي ومن ضمنه إهدار الوقت الاهتمام الكافي في أي خطة عمل يعدها، وخصوصاً الوقت المهدر فهو أمر لا يستهان به على الإطلاق، ويحمل الدولة تكاليف غير محسوبة للأسف في ميزانيتها السنوية. ولإيقاف هذا الهدر يتعين تفعيل الرقابة بأنواعها التالية: 1- الرقابة الذاتية للموظف (وإن كان لا يعول عليها كثيراً). 2- الرقابة الداخلية، حيث سبق وأن صدر قرار من مجلس الوزراء بإنشاء وحدات رقابية داخلية في كل جهة حكومية، تكون مرتبطة برئيس الجهاز. 3- رقابة ديوان المراقبة العامة، وهي الجهة المختصة إجراء الرقابة اللازمة للكشف عن المخالفات المالية والإدارية والتحقيق فيها. والمهم في الرقابة ليس مجرد الحديث عن وجودها وحسب، بل أن يكون وجودها فعلياً ومؤثراً وأن تكون الأنظمة الحاكمة لها مطابقة وعملية للواقع المستهدف، وبما أن محاربة الفساد وتطوير كفاءة العمل الحكومي أحد محاور السياسة الداخلية للحكومة، فالأمر يتطلب بذل المزيد من الجهود لكي ننعم بنتائجها، ولا نملك إلا الانتظار لنرى. وختاماً ما أصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ وصف الوظيفة العامة بأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.. ٭ مستشار قانوني