رغم الإعجاب المفرط الذي يصاحب عادة دراسات الغربيين عن بعض شخصيات التراث العربي الإسلامي، ويسمونهم عادة بالمفكرين الأحرار، مثل أبي العلاء المعري وابن المقفع وابن ملهم الريوندي، فلا شك ان هذه الدراسات تقدم فائدة ما للقارئ العربي. فهي تتضمن وجهة نظر أوروبية أو غربية حول شخصيات. قد لا يكون رسم هذه الشخصيات دقيقاً في أحيان كثيرة لأن هؤلاء الباحثين معجبون بداية بها. فهي تمثل عندهم خروجاً معيناً على السياق الإسلامي وهذا الخروج يجنح بهم أحياناً كثيرة إلى عدم التزام المنهجية في البحث وإبداء المودة بطريقة أو بأخرى. ولكن لهذه القراءة أو، القراءات الغربية فوائد كثيرة وبخاصة إذا التزم هؤلاء الباحثون حداً كافياً من الموضوعية، فعندها تكون فائدة العربي في الاطلاع على هذه الدراسات الأجنبية فائدة أكيدة. من هذه الدراسات الجادة التي قرأتها مؤخراً دراسة المستعرب الفرنسي دومينيك أورخوا، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة تولوز بفرنسا وعنوانها: «المفكرون الأحرار في الإسلام» وهي دراسة تعتمد على الوثائق والنصوص، ولأن ما لا يدرك كله لا ينسى جله، كما تقرر مجلة الأحكام العدلية، فإننا سنكتفي بعرض وجهة نظر الباحث الفرنسي حول أبي العلاء المعري لأنه يكتب في كتابه عن شخصيات تراثية إسلامية كثيرة. يمهد الباحث لبحثه عن المعري بالقول: «لئن واجه الفكر النقدي في كل مجتمع حشداً من وسائل القمع التي تراوح بين الإدانة وتواطؤ الصمت وتحوير النصوص والاستشهادات الغامضة، يبقى أن العامل الجمالي هو مكوّن أساسي من مكونات الحضارة العربية. فالجمال الشكلي للنصوص والنظم المحكم للأشعار، كانا يستطيعان أن يجنباها جميع المغبّات تقريباً، ومن هنا أهمية ما خلفه لنا من عمل شعري رفيع جداً تجاوز المجون الفكري كما الهاجس الديني المحض». ثمة إذن إقرار بالجمال الشكلي لأشعار المعري، ويكون هذا الجمال قد جنب هذه الأشعار كل المغبات التي كان يمكن أن يتعرض لها فكر أهم ما يميزه أنه فكر نقدي كُتب في مجتمع قمعي بوليسي. وحياة المعري نفسه يكتبها الباحث على الصورة التالية: ولد أبو العلاء أحمد بن عبدالله المعري سنة 363ه في معرة النعمان في شمال سوريا. وكان ينحدر من أسرة مرموقة ضمت مجموعة من الفقهاء والشعراء المعتبرين. ولكن الجدري ذهب ببصره عندما بلغ الرابعة من عمره. فعوّض عن هذه الإعاقة بمواهب استثنائية، وبذاكرة هائلة خصوصاً، فأتاح ذلك له ان يدرس الدين واللغة والأدب العربي في معرة النعمان وفي حلب القريبة منها. وقام بجولات في شمال سوريا، وربما وصل إلى انطاكية التي كانت وقتئذ تحت الحكم البيزنطي. وذكر بعض الأخباريين أن موقفه غير الهراطي قد نجم ربما عن تأثر بأحد الرهبان. وأقام أيضاً في بغداد مدة سنة ونصف، وكان عمره قد ناهز الخامسة والثلاثين، وفيها تردد على أدباء عديدين. وبعد أن توفي أبواه رفض أن يتزوج كي لا يجني على أحد. وحبس نفسه في بيته داخل مدينة يهددها الروم، ودرّس فيها اللغة والأدب العربي للعديد من الطلاب الذين قدموا من بعيد. وزاره فيها عدد كبير من الشخصيات، وراسل مجموعة من الناس وتوفي في معرة النعمان سنة 449ه. شخص المعري بالنسبة للباحث مليء بالتناقضات، كان نسبياً من الميسورين وله خدم، ولكنه عاش حياة زاهدة. ارتبط في نهاية حياته بالاسماعيليين دون أن يفقد استقلاله، وادعى انه يملك علماً باطنياً، إلا أنه لم يكشف النقاب عنه لأحد، ولم يفصح عنه في كتبه. وكان موقفه شبيهاً بموقف الدعاة الاسماعيليين الذين كانوا يزرعون البلبلة ويدعون إلى التسليم بحكم الإمام. ولكنه فيما بعد شجب عقيدة الإمام المعصوم، ويظن بعضهم أنه في السنوات الأخيرة من عمره، عاد إلى الموقف السني الشافعي الذي تبناه في شبابه. ونجد هذه التناقضات عند المؤلفين الذين تعمقوا في تحليل حالته. فابن الجوزي الذي كتب عنه بعد قرن ونصف من وفاته، يشير إلى ايمانه الرجراج ويورد تهم الإلحاد التي رماها به علماء آخرون، وقد مال إلى المقاربة بينه وبين البراهمة، فيما يتعلق بانتقاداته للأنبياء والشرائع الدينية بعامة، وبنفيه بعث الأجساد. بعد ذلك بقليل حاول المؤرخ ابن العديم أن يجد في مأثورات أهل المعرة حججاً للرد على هذه التهم. وهناك مثل آخر على مثل هذا التعارض فبينما اصطف المعري في رسالة الغفران إلى جانب الذين انتقدوا ابن الريوندي على محاولته معارضة القرآن، اتهمه بعضهم بأنه حاول هو أيضاً معارضته في كتابه «الفصول والغايات». ويبدو أنهم لم يطلعوا مباشرة على هذا النص. ثمة إذن ابداع واتباع في الوقت نفسه. فما أن يجنح الباحث إلى معالجته على صورة معينة، إذا به ينفر ويتجه وجهة أخرى. وفي العصر الحديث كان فون كريمر أكثر الباحثين إصراراً على أن المعري «مفكر حر» وهو الذي أعاد الاعتبار لديوان «اللزوميات» الذي كان مهملاً بسبب طابعه الرجيم. وترجم منه عدداً من الأشعار لتأييد أطروحته. وعلى الرغم من الدعم الذي أمده به غولدزيهر انتقده المستشرق برشيه على ترجمته وبين أنها «نزوية» وفي عام 1904 قارب سالمون بين المعري الذي وصفه بأنه معاد للروحانيات حتى العظم وبأنه مادي تماماً، وبين تشاؤم الشاعر أبي العتاهية، مما أثار احتجاج نيكلسون الذي اعتبر المعري مفكراً شكاكاً على غرار الشكاكين في الفلسفة اليونانية واللاتينية القديمة. وظن طه حسين انه يستطيع - خلف التحايلات الهادفة إلى تجنب استفزاز رجال الدين - أن يجد عند المعري منظومة عقلانية حقيقية. وهذه أطروحة فندها كل من بروكلمان وبنت الشاطئ التي اعتبرت المعري شاعراً قبل كل شيء! لا يحاول الباحث الفرنسي أن يحدد المذهب الخاص للمعري. وقد اعترف التراث له بمذهب وحيد وهو النباتية. يحاول فقط أن يضع هذا الشاعر الذي فتن الكثيرين، في اطار الانتاج النقدي وسيكون مرجعه الرئيسي في هذا العدد ديوان «اللزوميات» كان الاسم الحقيقي للديوان هو «لزوم ما لا يلزم» لأن المعري التزم فيه قواعد شكلية أكثر إلزاماً مما يتبع بالعادة والديوان عبارة عن قصائد تعود إلى ما بعد إقامته في بغداد، وظن بعضهم أن تطوراً في أفكار المعري قد حدث ويمكن استقراؤه من التناقضات التي ظهرت بعد أن أُعيد ترتيب الأشعار لاحقاً. ولكننا لا نستطيع اعتماد هذا التطور، بل نلتزم التعامل مع الديوان كما ورد. ينهي الباحث دراسته عن المعري، وقد عرضنا لأبرز ما ورد فيها، بالقول ان المعري يسكب أفكاره في قالب سديد بحيث ترسخ في الذاكرة. وفي حين أن الشعر العربي يميل جداً إلى الجمالية، نرى أن شعر المعري يميل أساساً إلى الرمزية وإحكام المعاني. ولكن الفكرة المعبّر عنها لها عوامل عدة فتارة يرفض الإلحاد، وتارة ينتقد جميع الأديان. ونراه هنا وهناك يستنكر قدم العالم، ولكنه ينتصر له في أماكن عدة من ديوانه. وفي الغالب يشهر ايمانه بالحتمية، ولكنه يرى أيضاً أنها تتعارض مع التقوى والورع. وليس من الوارد أن يجد المرء لديه طريقاً وسطا، لأن المعري لا يقترحه مطلقاً ما يهمه هو كمال التواشج بين الشكل والمضمون. فقيمة كل تعبير على حدة تكمن في ذاته ولذاته. ولعل هذه الكلمات تلخص المعري بوجه عام. ولكنها بالتأكيد وجهة نظر جديرة بالاهتمام.