تضطلع ناركيسا ترانكا بمهام جلي البلاط وعينها على طفلها الرضيع بينما ينشغل بالها بالمهام الشاقة التي تنتظرها: النظافة والطبخ وإعلاف الحيوانات وإطعام الدواجن. لقد اضطرت ناركيسا ذات الاثنين وعشرين ربيعاً لأن تهجر أحلامها الكبيرة فوأدتها في مهدها قبل أن تتزوج في سن الخامسة عشرة ليصبح ما تقدم هو طابع حياتها طيلة السنوات السبع المنصرمة حيث الدوران في حلقة من الكآبة التي وطنت نفسها على التعايش معها. وفي ضواحي بوخارست تلك العاصمة المزدحمة وإلى الغرب من هذه القرية البائسة تأخذ كلوديا الشقيقة الصغرى لناركيسا قسطاً من الراحة بعد أن فرغت من أداء واجبها المنزلي في اللغة الانجليزية؛ فهي في نهائي المرحلة الثانوية وتستعد للالتحاق بالجامعة حيث تخطط لدراسة اللغات. برغم أن ما يفصل بين ناركيسا وشقيقتها كلوديا لا يتجاوز أربعة أعوام من الزمان ومسافة يمكن قطعها في ساعتين فقط فإن الشقيقتين تعيشان في عالمين مختلفين تماماً - ذلك أن قصتهما إنما هي قصة شقيقتين موهوبتين اتخذت كل منهما في الحياة سبيلاً. الآراء المتحجرة تجاه التعليم والزواج تسببت في انحباس الغجر داخل حلقة ضيقة من الضنك والمعاناة وشظف العيش إنهما من الغجر وقصتهما تعكس التغيير البطيء الذي بدأ يطرأ رويداً رويداً على هذه الأقلية المضطهدة في أوروبا؛ فهما تفتحان كوة لبصيص أمل في أن تتاح لفتيات الجيل القادم إمكانية اختيار التعليم لا الزواج المبكر مما يمكنهن من الهروب من بؤس العيش على هامش الحياة الاجتماعية. عندما سئل الأب مارسيل ترانكا عن قراره إرغام ابنته ناركيسا على الزواج رد قائلاً: «لقد كنت مخطئاً». ثم أردف يقول وهو ينظر إلى كلوديا: «لكنني تعلمت من ذلك الخطأ». يشار إلى أن الزواج في الصغر عبارة عن تقليد دارج في أوساط الغجر نشأ عن الحاجة للبقاء على قيد الحياة وسط بيئة أصبحت فيها الفتيات في سن الشباب لقمة سائغة وصيداً سهلاً للرجال من غير الغجر. أما الغجر في رومانيا بصفة خاصة فقد لجأوا إلى الزواج المبكر أثناء فترة الرق والاستعباد التي استمرت لخمس مئة عام انتهت في القرن التاسع عشر حيث كانت الفتيات المتزوجات أقل عرضةً للاغتصاب من قبل أسيادهن مما يقصف بحياتهن ويقذف بهن وبأطفالهن المولودين سفاحاً إلى مجاهل الضياع فيصبحن في حكم المنبوذات من قبل مجتمع «البيض» ومجتمع الغجر على حد سواء. لا توجد إحصائيات عن عدد الفتيات اللاتي أرغمن قسراً على الزواج قبل بلوغ السن الزواج أو على ترتيبات غير قانونية شبيهة بالزواج في أوساط الغجر الذين يزيد عددهم على خمسة ملايين نسمة في شرق أوروبا؛ بيد أن تقريراً صدر في رومانيا في عام 2008م أورد أن 55٪ من إناث الغجر حملن لأول مرة قبل سن الثامنة عشرة بينما بلغت نسبة من حملن في هذا العمر 14٪ في الرومانيات من غير الغجر. أما التقارير التي صدرت مؤخراً عن فتاة غجرية أنجبت مولوداً في أسبانيا وهي في سن العاشرة، فقد انطوت على شيء من التهويل، ذلك أن جيرانها من الغجر أفادوا بأن عمرها لا يقل بأي حال عن (13) عاماً. ومع هذا فإن العشرات من الأمثلة المثبتة بالوثائق والمستندات خلال السنوات العشر الماضية عن الفتيات الغجريات اللاتي «تم اقتيادهن إلى حظيرة الزواج» في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة تشير إلى أن هذه الحالات ليست نادرة في عالم الغجر. أما الأرقام المتعلقة بالتعليم المدرسي فهي أيضاً تشير إلى درجة عالية من الحرمان في هذا المجال لدى الغجر حيث اتضح من واقع مسح أجراه برنامج الأممالمتحدة الإنمائي للغجر في أوروبا الجنوبية الشرقية أن اثنين من كل ثلاثة من الغجر في تلك المنطقة لا يكملان تعليمهما الابتدائي وأن اثنين من كل خمسة لا يدخلان المدرسة ابتداء بينما كانت نسبة الأمية بمعدل واحد بين كل أربعة في حين أن نسبة من أكملوا التعليم الثانوي فما فوق كانت في حدود 8٪ فقط. وحتى عهد قريب لم يكن لدى العديد من أطفال الغجر أي فرصة للتعليم حتى ولو وافق ذووهم على إرسالهم إلى المدارس. ففي جمهورية التشيك وسلوفاكيا وغيرهما كان أطفال الغجر يُرْسَلون في بعض الأحيان إلى مدارس التربية الخاصة المخصصة للمتخلفين عقلياً وذلك على أساس العرق فقط - أي لا لشيء سوى أنهم من الغجر - وهي ممارسة لم تتغير إلا مؤخراً وبعد موجة غضب عالمية عارمة. لقد ازدادت حدة انتقاد التمييز العنصري ضد الغجر في الآونة الأخيرة بسبب التفجيرات التي راح ضحيتها غجر من فرنسا مؤخراً. إلا أنه وبالإضافة إلى الأحكام السبقية المجحفة أو المتحاملة فإن الآراء المتحجرة والمواقف الصارمة تجاه التعليم والزواج لها أيضاً دورها البارز في انحباس الغجر وانحشارهم داخل الحلقة الضيقة من الضنك والمعاناة وشظف العيش. اركيسا ترانكا (22 عاماً) في الوسط مع شقيقتها كلوديا (18 عاماً) - يسار - واثنين من أطفال ناركيسا في قريتهم بادوبو ومع ذلك فإن بصيصاً من أمل ظهر بفضل فتيات من قبيل كلوديا وامثالها فضلاً عن وجود مؤشرات عن أن مواقف الغجر تجاه التعليم بدأت تتطور شيئاً فشيئاً نحو القبول والإيجاب. كان هنالك (109000) من الغجر في المدارس برومانيا في عام 1990م بينما يتراوح عددهم في الوقت الحالي بين (238000) و(260000) وفقاً لما أوردته وزارة التربية والتعليم وذلك بزيادة أكبر من نسبة النمو والزيادة في عدد الغجر إجمالاً. من واقع استطلاع أجري من قبل جالوب وصندوق تعليم الغجر في العام المنصرم اتضح أنه تم تسجيل حوالي (1420) طالباً وطالبة من الغجر في عام 2006م في مقاعد حجزت لهم خصيصاً في الجامعات والمعاهد العليا في رومانيا حيث بلغت الزيادة أربعة أضعاف منذ عام 2000م. يتحدث مارسيل ترانكا عن رد فعل الآباء الغجريين الآخرين تجاه موقف ابنتيه قائلاً: «إنهم يثيرون الأقاويل عني ويشعرون بالأسى تجاهي قائلين إن بناتي سوف لن يجدن من يتزوجهن» واستطرد بقوله: «أنا لا أهتم بما يقولون.. فالفتيات الأخريات في الحي يأتين لالتماس النصح والمشورة من كلوديا فهي بمثابة قدوة ونموذج يحتذى». كانت نارسيكا في ربيعها الرابع عشر وكانت فاتنة ذات جمال أخاذ والأهم من ذلك كله أنها كانت مجتهدة وعلى استعداد لأن تمضي الساعات الطوال لأجل زوجها المستقبلي مع تنشئة العديد من الأطفال. وكان آل روبيتا مهتمين بالأمر حيث كان ابنهم مارين في سن السادسة عشرة التي تسمح له بالزواج كما أن والداه كانا ميسوري الحال حيث يعمل الوالد في تجارة الماشية في أودوبو وأمضوا الكثير من وقتهم في الحياة في الشارع ويحتاجون لمن تضطلع بالأعمال المنزلية وتمنحهم الفرصة لأن يصبحوا أجداداً لأحفاد وهكذا وبمباركة من الأسرتين التقى مارين مع ناركيسا في بوخارست حيث تم عقد قرانهما مقابل صداق بلغ ألفين من الدولارات الأمريكية وكانت مناسبة الزواج حدثاً أوردته وقتها وكالة أسوشييتد برس حيث تعانقت ألسنة اللهب المندلع عن الديزل مع رائحة الشواء داخل مطعم موقف الحافلات في كورينا خارج بوخارست. وأقيمت رقصات الغجر وأغنيات التراث الشعبي الغجري حيث امتزج البوب الروماني مع الموسيقى الكلاسيكية للغجر. غرد صوت المطربة مجلجلاً وشق عنان السماء وكانت العروسة ترفل في أحلى ثياب زفافها - بيد أن بسمتها إنما كانت تنتزعها انتزاعاً فيما بدا ذهنها شارداً عندما طلب منها أن ترقص. قبل أسابيع قليلة كانت ناركيسا في المرحلة المتوسطة وكانت طالبة متفوقة تحلم بدراسة الطب ولطالما توسلت إلى والديها للسماح لها بمواصلة تعليمها فكان الرفض جوابهما حيث قالا إن هذه هي طريقة الغجر. وقد تحدثت في هذا السياق قائلة في استسلام: «لقد كنت أرغب في أن أصبح طبيبة أطفال وقد تحدثت إلى والديّ مراراً وتكراراً ولكنني لم أجد آذانا صاغية منهما». أما الزوج مارين الذي غادر الدراسة في المرحلة الابتدائية فقد أفاد بأنه يرغب في أن يكون أباً لطفلتين وطفلين. عندما سئل مارين عما إذا كانت زوجته موافقة على ذلك أجاب بأنه لا يدري قائلاً إنه لم يسألها بعد. أما عندما سئل عن إمكانية ذهابها إلى المدرسة فقد رد في حسم بأنه سوف لن تصبح في البيت ولو ليوم واحد. وأضاف قائلاً: «سوف تكون مشغولة بالعمل المنزلي. تنتصب ناركيسا في مطبخها مثل مادونا وهي تحمل طفلها البالغ من العمر سنة ونصف السنة بينما كانت طفلتاها اللتان تبلغان من العمر ست وأربع سنوات يتحلقن حولها وهي لا تزال تبدو في هيئة الطفلة التي أرغمت على الزواج في عام 2003م أكثر من كونها المرأة الشابة التي تكد وتكدح حالياً لأجل أطفالها وزوجها وأصهارها شديدي المراس. وأما زوجها مارين فهو يبتسم عندما يسأل عن زواجه بيد أن عينيه تعكسان قلقاً وهو يقول: «بالطبع سوف نناقش كل شيء وسوف تكون لها كلمتها في تسيير دفة المنزل. بيد أنني أفعل ما أريد». وعندما ووجه قال إنه يود لأبنائه أن يدخلوا المدارس لكي يكونوا أكثر إلماماً ومعرفة منه بيد أنه يتهرب عن الإجابة عندما يسأل عن رأي والديه. تتدخل ناركيسا على عجل وهي تقول: «لا يزال أمامنا وقت طويل لكي نعبر ذلك الجسر وتحدثت عن ضياع فرصتها في التعليم فقالت: «كنت أحب أن أستمر في الدراسة وأحصل على وظيفة جيدة لأمضي وقتاً أطول مع أسرتي. تتمتع كلوديا بحرية أكثر واهتمامات أقل إنني سعيدة لها ولكنني وددت لو كنت مثلها». وقد هزت رأسها وهي تجيب على سؤال عما إذا كانت ساخطة على والديها لدفعها إلى الزواج. ردت بقولها: «إنه ليس ذنبهم. انه قدري». وفقاً لمعايير الغجر يعد مارسيل ترانكا رجلاً متعلماً؛ فهو ميكانيكي وسائق عاطل عن العمل وكان قد أكمل الصف العاشر في المدارس النظامية وبعد ذلك درس في المدارس المسائية حتى الصف الثاني عشر حيث كانت تفصله سنة واحدة فقط عن نيل الدبلوم. تحدث عن قراره ترك المدرسة قائلاً: «إنني نادم عليه الآن. لقد كان بإمكاني إكمال دراستي ودخول الجامعة». ما الذي دفعه لأن يرغم ابنته البكر على الزواج ولماذا سمح لابنته كلوديا بأن تواصل تعليمها؟ برر ذلك قائلاً: «لقد كان هذا يندرج ضمن تقاليد الغجر ولكنني سرعان ما ندمت عليه بعد أن وافقنا على الزواج». وأضاف فقال: «لقد كنت أبكي كلما تركتها مع أسرتها الجديدة فقد تحققت من أن طفولتها ضاعت وقد وددت إعادتها إلى المدرسة حتى بعد الزواج لكنها بعد ذلك أنجبت أطفالها واحداً تلو الآخر». لدى مارسيل خطط أخرى لأطفاله الذين لا يزالون معه في المنزل وهم كلوديا وأمير الذي يبلغ من العمر 17 عاماً وأنا ماريا التي يبلغ عمرها أربع سنوات. وصف ذلك بقوله: «أريد لهم أن يروا العالم أريد لهم أن يحصلوا على وظائف جيدة أريد لهم أن يحصلوا على فرصة لها علاقة بعصرنا وعهدنا». وكانت زوجته ميهايلا تشارك وهي تقف إلى الخلف وفقاً لتقاليد الغجر؛ حيث تحدثت بصوت هامس وهي تقول: «إن الزواج خطوة مهمة إنها ليست للأطفال». أما كلوديا التي تعد قارئة نهمة وتتحدث بلغة رفيعة فقد رأت من الحياة أكثر مما رأته ناركيسا. لقد شاركت في برنامج للتبادل الطلابي المخصص لطلاب وطالبات المرحلة الثانوية حيث سافرت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية في رحلة استمرت لشهرين زارت خلالها ولاية نورث كارولاينا في الشرق وولاية واشنطن في الغرب كما أنها تريد أن تواصل دراستها خارج رومانيا. أما الزواج وتكوين عائلة فهي توافق عليهما ولكن ليس قبل تلقي تعليم جيد. وكان حديثها مزيجا من الحماسة والهدوء وهي تتطرق إلى خطتها للحصول على درجة الماجستير بينما يتحول مزاجها إلى الميل إلى الشفقة عندما تتحدث عن ناركيسا حيث تقول: «إن من الصعب عليها أنها تحاول تعليمه بيد أن أنانيته الذكورية تقف حجر عثرة وهو لا يود أن يصغي إليها». ومضت في قولها عن ناركيسا: «إنها كانت دائماً تشجعني وتقول لي لا تدعي الفرصة تفوتك».