يذكر الميثاق التأسيسي لليونسكو في ديباجته (إن كرامة الإنسان تقتفي نشر الثقافة وتنشئة الناس أجمعين على مبادئ العدالة والحرية والسلام, وإن لكل فرد الحق أن يشترك اشتراكا حرا في حياة المجتمع الثقافية, وفي الاستمتاع بالفنون) كما اعتمد المؤتمر العام لليونسكو في دورته الرابعة عشرة عام 1966 التوصية التالية (إن الثقافة من العناصر الهامة للحياة البشرية, وعامل من العوامل الرئيسة للتقدم وارتفاع الطاقات الروحية وانطلاق الملكات الخلاقة). على الرغم من هذه الواجهات الثقافية البراقة والشعارات المحتدمة التي تحاول المنظمات الدولية أن تروج لها وأن تبثها في شرايين العالم, متحدية بهذا كل ما هو متوحش وبدائي لدى البشر عبر ترياق الفن, فما زال الفعل الثقافي يعاني من التمييز والإقصاء مقارنة ببقية الأنشطة البشرية وما زال يصنف في كثير من البلدان المتخلفة على كونه نوعا من الترف يمارس في هامش الزمان والمكان. ولكن يبدو أن مدينة جدة قد اختارت شيئا مغايرا الأسبوع الماضي, هذه المدينة الأيقونة التي كم نستتاب عن هواها ولكننا لا نتوب, وتظل أفئدتنا لها تؤوب, لعلها روح أمنا الكبرى حواء بوصلتنا التي تخفق في جنباتها بسر الأبدية والخلود, وتظل تستنطق في أركانها أجنحة مخصبة بالفنون والحياة والإبداع, ذلك الأبداع الذي يتجلى في صور لا متناهية تعكسها تلك المدينة التي تنسدل على الشاطئ منذ أول صفحة في كتاب التاريخ إلى يومنا هذا وهي تروض الاستبداد بترياق الفكر تقاوم أحادية اللون بخميلة قوس قزح من الأجناس والأعراق, وتستنبت حقول الأدب والفن لتنهض في وجه رمال التصحر. وإثنينية الأستاذ عبدالمقصود خوجه تظل الحدث الثقافي الأبرز في هذه المدينة, فعلى ما يربو على خمس والعشرين عاما ظلت هذه الإثنينية من خلال نفس طويل وإرادة تحمل يقينا لا يندمل تمارس دورها التنويري كقدر لا انفكاك منه, وظل صاحبها المثقف النبيل متأبطا حلمه بأن يعيد طلاء واجهة العالم الكئيبة من خلال ضوء الثقافة وحيويتها, متحديا في هذا نمطية التصور الذي يصلب الثقافة وأصحابها دوما فوق قدر أزلي لصليب العوز, ويجعل من الوراقين جماعة تعاني من الرثاثة وضيق ذات اليد. ظلت الإثنينية ناهضة على الرغم من موجات متتالية من السنين العجاف, والجدب الثقافي وكمون الفعل الخلاق وحصار هجمة ظلامية شاهقة, وكبوات الزمن ووجهه المظلم المدلهم حينما يختطف فلذة الكبد من وسط نضارة العمر وحقول البهجة وبقي صاحب الإثنينية ممتطيا صهوة إرادة شامخة تخاتل مكر الزمن بل وتروضه. وجيل تلو الجيل رممت هذه الإثنينية بفعل وطني خلاق ما عجزت المؤسسة الثقافية الرسمية عن القيام به في بلاط الثقافة.