قال لي شاب خلوق: إن لي قريباً كبيراً في السن حاد الذكاء حاضر البديهة سريع الجواب، ورآني بعد غياب - وكنت قد عملت حمية فانخفض وزني كثيراً - فتأملني ثم قال: - ما شاء الله يا سعد.. انخفض وزنك. قلت: - عملت حمية يا عمي.. قال وهو ينظر لجسمي: - وكم صار وزنك؟ قلت: - ثمانين.. فقال: - غير معقول.. أنا أبدو أسمن منك ووزني سبعين. فخرج مني كلمة ندمت فور إطلاقها حين قلت: - إيه يا عمي الوزن يتحكم فيه أشياء كثيرة مثل العظام والعقل. فقال على الفور: - وثقل الدم..! فقمت ضاحكاً وقبلت رأسه وقلت (والله ما أقصد شيء). قال: إلا تقصد.. تقول العقل!.. يعني عقلك أثقل من عقولنا وهو الذي زاد وزنك.. الذي زاده والله ثقل الدم!!.. فضحكت وقلت: سم!.. المهم لا تزعل.. كلمة طاحت مني غلط وجاني جوابها كالرصاصة.. أستاهل! ثم قال الشاب وهو يتذكر: والله ما هي بعادتي أنا أحترم أقاربي وأوقر من هو أكبر مني ولكنها كلمة وزلت والحمد لله إنه ردها بأكبر منها حتى يرتاح.. وأرتاح! * * * قلت: والأمم كلها، والعرب خاصة، يكرهون الثقل والثقلاء، ولهم في ذلك مؤلفات، ولا يكاد كتاب من التراث يخلو من باب يتحدث عن (الثقلاء) أمثال (العقد الفريد) و(محاضرات الأدباء) و(عيون الأخبار) وغيرها كثير.. ومأثورنا الشعبي امتداد لتراثنا العربي، تسامى من أحفاد لأجداد، لهذا فإن ثقافة الشعب وأمثاله تكره الثقلاء تصف الثقيل بأنه: (نجسْ طفس..)! والصفة الأولى تشمل المظهر والمخبر، فإن الثقيل ينقل الأخبار الكريهة ويزيد فيها ويختلقها لأنه حاقد، أما الطفس فهو الوبيل الثقيل الذي يجعل المجلس المنور يظلم، والمرح الصداح ينقطع ويحل مكانه الصمت والترقب الحذر والحرص على مغادرة الثقيل ولكنه لا يشعر ولا يغادر: «إذا حلّ الثقيل بأرض قوم فما للساكنين سوى الرحيل» وفي المأثور الشعبي يعتبرون المعاند على غير أساس رأس الثقلاء لأنه يوتر الأعصاب ويفسد الجلسة ويثقل على محدثه، يقولون عنه «أعقد من ذنب الضب» و«أعوج من ذنب الكلب) وإذا كان عنيداً كذوباً بجوحاً قبيح المظهر والمخبر قالوا عنه «جرذي ومشوي بصون»!! ويقول شوقي في تصوير ثقيل: «سقط الحمار من السفينة في الدجى فبكى الرفاق لفقده وترحموا وعندما طلع الصباح أتت به نحو السفينة موجة تتقدم قالت خذوه كما أتاني سالماً لم ابتلعه لأنه لا يهضم» والرفاق هنا ثقلاء مثله فالطيور تقع على أشكالها، المشكلة إذا وقع الغراب بين الحمام، واختلط الكلب بالغزلان، فلا الشكل هو الشكل.. ولا الطبع ولا العقل.. والأعمش كان يكره الثقلاء.. قال (الثقل هو مرض الروح) وكان صريحاً في مواجهة الثقلاء، أحاط بحلقته العلمية بمجموعة منهم فتضايق وغضب فقال له ثقيل منهم يتزلف له: - أطردهم عنك؟ فقال: - اطردهم وانطرد معهم! وجاء يوماً لبيته فوجد ثلاثة ينتظرونه (لأنه كان محدثاً حجة في الحديث) فدخل بيته وتركهم، ثم خرج لهم بسرعة، فقالوا: لماذا هربت منا ثم عدت؟ فقال: وجدت في بيتي زوج ابنتي وهو أثقل منكم فخرجت لكم! كما أن أحمد الصافي النجفي كان يكره الثقلاء ويرى أنهم كثيرون لذلك صاح: «أين المفر أجيبوا في كل أرض ثقيل»! وبعض الحكماء يقولون: إن الثقيل لا يشعر بأنه ثقيل أو يخشى من ذلك أو يخطر بباله فهو عند نفسه (تحفة) أما الذي يخاف أن يثقل على الآخرين فهو ليس بثقيل.. ومن صفات الثقلاء (اللقافة والفضول) و(التدخل فيما لا يعنيهم) و(مقاطعة المتحدث) و(كثرة ترديد الكلام البارد) و(طول المكوث عند الضيف مع الحضور بلا موعد ولا دعوة) والغيبة والنميمة وشهوة الانتقاد وشدة العناد وإثارة الأعصاب.. وسرقة وقت المشغولين، يقول المثل العربي (أثقل الناس من أشغل مشغولاً). وللمتنبي: «كلام أكثر من تلقي ومنظره مما يشق على الأسماع والحدق» ولابن الرومي (وأقذع): «معشر أشبهوا القرود ولكن خالفوها في خفة الأرواح» ويقول آخر في ثقيل: (مشى فدعا من ثقله الحوت ربه وقال: إلهي زدت في الأرض ثامنه»! * * * والانتقاد باسم النصيحة وأمام الملأ غاية الثقيل.. حتى لو كانت نصيحة فيجب أن تكون بالسر.. يقول الخلاوي راشد: «ترى النصايح في البرايا فضايح كم ناصح أضحى له الناس عايبه) كما أن مدح النفس ثقل وسماجة، يقول الشاعر: «من قال أنا خيار الملا ربحه العنا ومن قال أنا ضيم الرجال يضام» ويقول محمد عبدالله القاضي: «هذا وكل من ادعى بالكماله عمى وتاه بطلمة الليل والآل» أي السراب. كما أن المتبلد المتطفل الذي همه حضور الولائم بدعوة وبدون ثقيل وبيل، قال طلال الدغيري: «ما نيب هلباج يجي للولايم وترى مديح النفس عيب وسماجه هني دب طول الأيام نايم ما له خدا ما حط بالبطن حاجه» (وهني) للسخرية..