قبل نحو أربع سنوات دعوتُ الروائي إبراهيم الكوني للحديث في ندوة «الأدب والمنفى» التي أقامها المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث في الدوحة بين 25-27/3/2007. كان هو مقيما في سويسرا منذ عام 1993، ولم نلتق أبدا من قبل، وبصعوبة بالغة حصلت على عنوانه، فأرسل لي مداخلة قصيرة بالفاكس بعنوان «الشاة المائة»، بدأها بمقتبس ورد في أنجيل «متّى» هذا نصه: «إن كان للإنسان مئة خروف، وضل واحد منها، أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال، ويذهب يطلب الضال؟ وإن اتفق ووجده، فالحق أقول لكم إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضلّ». كانت المداخلة مكثفة جدا، ومكتوبة بخط اليد، وقد عانت السكرتيرة في فك ألغاز الحروف المتداخلة، فاضطررت إلى مراجعتها بنفسي أكثر من مرة. كان ذلك قبل نحو أربعة أشهر من موعد انعقاد الندوة. اتصل الكوني ليطمئن إلى وصولها، فأخبرته إن ذلك هو مجرد قسم أول من المداخلة، وينبغي الاستمرار في توسيع المداخلة، وقد فعل، فأضاف فقرات أخرى أثرت شهادته، ومع ذلك فقد كانت أقصر المداخلات التي ظهرت في الكتاب الذي ضمّ بحوث الندوة، وقد أشرفت عليه، وحررته، وكتبت مقدمته، وهو بعنوان «الأدب والمنفى». ولم أكن أعرف أبدا أن الكوني لديه متاعب صحية حقيقية، وحينما علمت غيرت مسار سفره من زيورخ إلى الدوحة أكثر من مرة، لأمكنه من الوصول بدون أية متاعب، ولازمته حال وصوله ضيفا عزيزا وكبيرا. ولا أخفي أنني سحرت بشهادته التي قدمها في الندوة، فقد كانت وصفا معمقا لاغتراب سليل الصحراء بين نوعين من المنفى: منفى بسبب الهوية الصحراوية، ومنفى كونه مبدعا في سياق اجتماعي لا يمنح المبدعين المكانة الحقيقية ولا يعترف بهم. كانت مداخلة متميزة. وقد أمضينا أياما عدة في الدوحة، وسرعان ما اكتشفت أنه أحد أكثر الكتاب العرب زهدا بكل شيء. وقد أفعمتُ بسرور عميق حينما فاز بجائزة الشيخ زايد للآداب «نداء ما كان بعيدا»، وكان قد أهداه لي بكلمات من التقدير العميق، أتحرج من ذكرها في هذه المقالة. وأعيد نشر هذه المقالة تحية له لمناسبة فوزه بجائرة الراوية العربية في القاهرة في منتصف ديسمبر 2010 في أول تسعينيات القرن الماضي كنت أقوم بتدريس الرواية في إحدى الجامعات الليبية، وفوجئ الجميع لما قررت تدريس روايات الكوني، فمعلوم أن الآداب الوطنية لا تستأثر باهتمام الدراسات الجامعية، فهي لا تنظر إليها بعين التقدير، إنما ترى ذلك في الآداب الأجنبية. ولما أصررت على ذلك ذهل المسؤولون في الكلية من ذلك، بمن فيهم الطلبة، فلم تكن لديهم أية فكرة عن أهمية الكوني، إلى ذلك فثمة لغط مكتوم حول اهتمام الكوني بمجتمع الطوارق دون سواه، ففي المجتمعات التقليدية يجري تسقط الحجج كائنا ما كانت للنيل من المبدعين الكبار غير الممتثلين. لكنني لم أنكص، بل أعددتُ ملفاً عنه نشر في مجلة"الجديد" الأردنية، وشارك فيه نخبة من النقاد الذين حللوا روايات الكوني. وهو أول ملف متكامل يكتب عنه. كان ذلك منذ نحو عقد ونصف، وفي كتابي «موسوعة السرد العربي» انتزع الكوني مكانة مهمة هو -ولا شك- جدير بها. ولطالما أشرت في اكثر من مناسبة بأن الكوني هو صانع «ميثولوجيا الطوارق». إنه خالق ماهر للحكايات، وله قدرة خاصة في ابتكار الأساطير، وهو متوغل في عمق مجتمع الطوارق، وأدبه يتنزل بين منطقتي الطبيعة والثقافة، إذ ينتمي إلى الطبيعة بعلاقاتها الأولية من جهة، وإلى الثقافة بعلاقاتها الإنسانية من جهة أخرى. ينبغي ألا يدهش أحد أبدا من المفارقة الآتية: فمن عمق الجبال السويسرية أعاد الكوني بناء مجتمع الصحراء الكبرى بوساطة السرد، علينا أن نتذكر أن «محمد حسين هيكل» كتب رواية «زينب» وهو في سويسرا أيضا، وفيها استعاد روح الريف المصري في بداية القرن العشرين. إن المنفى -قسريا كان أم طوعيا- يغذّي الكاتب بذاكرة قوية جدا لإعادة بناء تجارب الماضي. حينما أقترب إلى المدونة السردية للكوني -وهي مدونة ضخمة- أجد ما يبرهن على تصوراتي، ولأضرب مثلا، فالدرويش في رواية «المجوس» اختار الانتساب إلى عشيرة الذئاب، إذ سبق وأن أنقذت جده من الموت ذئبة، وأرضعته حليبها، فصار ذئباً بالرضاعة، ولهذا السبب هاجر بصحبة الذئاب حينما لم يجد تقبلا من المحيط الإنساني، وظهر الأمر ذاته مع «أوداد» الذي اشتق اسمه من «الودّان» وقد نسب طوطمياً إلى هذا الحيوان، وجعل شعار حياته ذلك الحيوان الأنيس. وسرعان ما يفصح عن سر الانتساب، فإذا بالودان هو والد «أوداد»، ذلك أن أمه «تامغارت» لم تنجب، لأنها كانت عاقرا، فرحلت إلى الجبل، وتوسلت الودان أن يمنحها ذرية، فكان قبوله بذلك مشروطاً بأن يمنح الوليد إليه، ووقع الحمل، وولد «أوداد».وكما يقع في التراجيديا الإغريقية إذ تقدر الآلهة على الإنسان أمراً، فقد سعى الودان لاسترداد وديعته، فأغرى «أوداد» وجعله متيماً بقمم الجبال، وأصعده إثر رهان اللوح المحرم في الجبل، فسقط إلى الهاوية، وبذلك استرد صلبه إليه بالموت. ثمة انتماء طبيعي كالانتساب إلى الحيوان والاتصال عبر أمشاج طوطمية بأصول سحرية غامضة، وهناك انتماء ثقافي كالانتساب الديني أو القبلي أو العرقي، ويتجلى الطمع ونفور النفوس بالشهوة والعنف، ورغم لانهائية الفضاء فإن الشخصيات تبقى أسيرة هواجسها وهي تصطرع بسبب الانتماء إلى هذه الفئة أو تلك. استأثرت الصحراء باهتمام منقطع النظير في عالم الكوني الروائي، فهدوؤها وغضبها، وصفاؤها وعتمتها، وأمانها وغدرها، تركت أثرها الكبير في الشخصيات والأحداث واللغة، وهي في الوقت الذي تؤجج فيه التمرد فإنها تبسط السكينة والهدوء والدعة والصمت إلى درجة يتحول ذلك إلى طقس تعبدي يفرض حضوره على الشخصيات. كما أن ظهور الأسطورة واختفاءها أمر يطَّرد في روايات الكوني، فما أن تتوهج أسطورة إلا وتنطفئ أخرى، وتظهر الشخصيات مغبرة وهي تحمل حكاياتها الصحراوية معها أينما تذهب، وكأنها لا تعمل إلا على مقايضة الحكايات بعضها ببعض، ووسط ذلك يستأثر الحيوان بمكانة واضحة، فالجمل والحصان وحيوانات الصحراء الأخرى دائمة الحضور وتقوم أحيانا بأدوار رئيسة، إذ تنعدم صلة الإنسان بالإنسان، فلا يجد أمامه إلا التواصل مع الحيوان، ففي رواية «التبر» تتأسس علاقة بين «أوخيد» و«الأبلق»، فالحيوان له شجرة نسب لا تقل أهمية عن الإنسان، وفيما يقع «أوخيد» بحب حسناء، فإن جمله هو الآخر يعشق ناقة. أما في رواية «نزيف الحجر» فالاندماج يبلغ أقصاه بين الصبي والودّان، فكل منهما يقع تحت طائلة «مديونية معنى» للآخر، لأنه يمنحه الحياة حينما تدخل لإبعاد شبح الموت، وبخاصة الودان الذي ينقذه وهو معلق على صخرة في سفح الجبل.