في الوقت الذي كان العالم يقف على أعتاب العام الميلادي الجديد، أصدر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوربي في قمة بروكسل قرار بدء مفاوضات عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد. هذا القرار لاتقتصر أهميته التاريخية على العلاقات التركية - الأوربية، بل تتعداها إلى العلاقات عبر أطلسية، لأن قرار بدء مفاوضات العضوية الكاملة مع بلد كبير مثل تركيا يبلغ عدد سكانها سبعين مليونا من المسلمين في حال نجاح هذه المفاوضات سيشكل خطوة استراتيجية كبيرة تتعدى آثارها إلى القرن الميلادي الجديد بكامله وستؤثر نتائجها على الساحة الدولية. وبقدر أهمية القدرة التي أظهرها الاتحاد الأوربي في اتخاذ مثل هذا القرار، تتجلى أهمية تحقيق تركيا للإصلاحات الاقتصادية والديمقراطية التي أدت إلى اتخاذ مثل هذا القرار. الجدل سيستمر في تركيا وكذلك في أوربا حول ما إذا كان مضمون هذا القرار يلبي مطالب تركيا أم لا. وهذا أمر طبيعي جدا. وقد تكون المآخذ كلها صحيحة، لكن أي شيء مما يقال ضد هذا القرار، لن يكون بمستوى التأثير على آفاق الفرص التي أتاحها هذا القرار لتركيا وللمنطقة ولأوربا على حد سواء. فقرار السابع عشر من ديسمبر يشير إلى تغيير جذري محتمل في وسط منطقة واسعة وذات أهمية بالغة بالنسبة للولايات المتحدة وأوربا. كما يلقي الضوء على السياسة الخارجية التي اتبعتها تركيا خلال العام المنصرم. بالنسبة للشرق الأوسط والعالم الإسلامي فإن عام 2004، لم يشهد أي تحسن على الجبهة العراقية وكذلك على الجبهة الفلسطينية. بل على العكس من ذلك بلغت معاناة الإنسان الفلسطيني والعراقي أبعادا لا يمكن تحملها. فقد عاشت تل أعفر والفلوجة في العراق وقطاع غزة في فلسطين مآسي إنسانية، والأتراك لا زالوا يحسون بألم ومرارة مقتل أكثر من ثمانين سائقا وخمسة من عناصر حماية السفارة التركية ببغداد، كما أكد امتداد الاشتباكات إلى الموصل ومقتل ما يقرب مائة من المواطنين الأتراك بأن وقوف تركيا بعيدة عن الحرب لا يشكل ضمانا بأن الحريق الذي وصل على أعتابها لن يسري إلى داخل تركيا نفسها. فحزب العمال الكردستاني الانفصالي يرى في الأوضاع غير المستقرة في العراق فرصة ذهبية لمواصلة أعماله الإرهابية عبر الحدود العراقية - التركية. وتركيا إدراكا منها بمسؤوليتها كعضو في حلف الناتو ومرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي، وضمن إطار سياسة التنسيق مع دول الجوار العراقي بذلت كل جهد ممكن لإعداد الأرضية اللازمة لوقف مزيد من التدهور في الأوضاع وإتاحة الفرصة لإجراء الانتخابات العامة في نهاية شهر يناير الحالي. وضمن المجموعة الأطلسية عقدت ثلاث قمم كبيرة، قمة الناتو في اسطنبول وقمة الثماني في جزر إيسلندا، القمة الأمريكية الأوربية في دبلن. وتركيا باستثناء قمة دبلن كانت من اللاعبين الرئيسيين في هاتين القمتين، فقد كانت اسطنبول مضيفة لقمة الناتو، والأهم من ذلك توسع الاتحاد الأوربي في الأول من مايو 2004 بانضمام عشر دول جديدة، ليشمل القارة كلها باستثناء غربي البلقان. فباتت أوربا ذات الخمسمائة مليون من السكان وبدخلها القومي الذي يزيد على آلاف المليارات من اليورو عملاقا اقتصاديا وتجاريا، واقتضت الحاجة إلى إعادة النظر في مكان وكيفية الإنتاج في المجالات الصناعية والتكنولوجية والزراعية. ويشهد العالم الإسلامي في أكثر بلدانه الإرهاب والظلم والفقر والجوع، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية والأوبئة، وقد أحدثت فاجعة تسونامي التي وقعت بعد الزلزال الكبير في جنوب شرقي آسيا دمارا كبيرا في البلدان الإسلامية في المنطقة، وعقد في العام الماضي اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي في اسطنبول، حيث لعبت تركيا دورا رائدا في هذا المؤتمر، وعهد إليها بمنصب الأمانة العامة. وعقب قمة بروكسل مباشرة كانت زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى سوريا، وفي الوقت نفسه زار وزير الخارجية الإيرانية أنقرة والتقى بكبار المسؤولين الأتراك، وسيزور وزير الخارجية الدكتور عبد الله غول الكيان الإسرائيلي وفلسطين خلال الأيام القادمة. وفي المشكلة القبرصية تمكنت تركيا من تحميل الجانب اليوناني مسؤولية عدم الحل في الجزيرة من خلال الاستفتاء الذي جرى في الجانبين وكانت النتيجة موافقة الجانب التركي لخطة الأمين العام للأمم المتحدة بينما رفض الجانب اليوناني هذه الخطة، فأثبتت تركيا بسياستها هذه بأنها لا توصد الأبواب أمام ثقافة الحوار والتفاهم، كما أثبتت بالسياسة التي اتبعتها تفوقها الطبيعي والسياسي، لكنها مع ذلك لم تنجح في تحويل هذا التفوق إلى الاعتراف بجمهورية قبرص الشمالية التركية ورفع العزلة عنها، والتوصل إلى حل لمشكلة الجزيرة المقسمة.