وهو أي أبو الطيب المتنبي - ملك الصورة الفنية في الشعر العربي، ولولا أن المديح شغله لملأ الفضاء بالصور الرائعة، ولكن حتى في شعر المديح نجد له صوراً تجسد البلاغة تجسيداً، كقوله يصف سيف الدولة وهو في وسط جيشه: «يهز الجيش حولك جانبيه كما نفضت جناحيها العقاب» وقوله في وصف معركة أخرى لسيف الدولة: «هل الحدث الحمراء تعرف لونها وتعلم أي الساقين الغمائم سقتها الغمام الغر قبل نزوله فلما دنا منها سقتها الجماجم بناها فأعلى والقنا يقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم فلله وقت ذوّب الغش ناره فلم يبق إلا صارم أو ضبارم(1) وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم» وحتى في الهجاء تسلم الصورة الفنية نفسها لريشة المتنبي، كقوله في كافور: «يستخشن الخز حين يلبسه وقد كان يبرى بظفره القلم»! أما في الوصف والغناء الذاتي فالمتنبي يأتي بالأعاجيب، إقرأ قصيدته في (الحمى) لتحس بروعة الشعر الذي يجعل قارئه يحلق في الخيال: «وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقام إذا ما فارقتني غسلتني كأنا عاكفان على حرام كأن الصبح يطردها فتجري مدامعها بأربعة سجام» وهي قصيدة طويلة جميلة تجدها كاملة في ديوان المتنبي 4/272 - 280 شرح البرقوقي. مغاني الشِّعب طيباً في المغاني *** بمنزلةِ الربيع من الزمانِ (أبو الطيب المتنبي) وقوله في وصف شعب بوان: «مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان طبت(2) فرساننا والخيل حتى خشيت وإن كرمن من الحران غدونا تنفض الأغصان فيها على أعرافها مثل الجمان فسرت وقد حجبن الشمس عني وجئن من الضياء بما كفاني وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيراً تفر من البنان لها ثمر تشير إليك منه بأشربة وقفن بلا أواني وأمواه تصل بها حصاها صليل الحلى في أيدي الغواني يقول بشعب بوان حصاني أعن هذا يسار إلى الطعان أبوكم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان» وسن بمعنى ابتدأها وليست بمعناها الشرعي، وشعب بوان واد جميل قرب شيراز، قال الخوارزمي: «منتزهات الدنيا أربعة مواضع: غوطة (دمشق، ونهر الأبلة، وشعب بوان، وصنعد سمرقند». والصورة الفنية في شعرنا الشعبي كثيرة وهي منثورة فيه نثر الزهور في العشب، خاصة حين تقرأ القصيدة البديعة كاملة وتتغنى بها وتترنم.. يقول ابن لعبون: «وقالوا صف حلاياها وصفها ووصفي قاصر عن ريم رامه سواد الناس في عيني عبات وهي مصيوغةٍ عندي علامه وكل البيض من دونه بوصفي ولا وصلن حدر من حزامه وقالوا نال منها ما تمنى وأنا ما نلت منها إلا الندامه تواعدني بحول بعد حول وتفصلني بقولتها السلامة وحالي حلها طول التجني كرسم دارس خفيت علامه براني صدودها وقصر حظي ومطل وعودها بري انفلامه بجور دايم منها وصد وهجران إلى يوم القيامه» ولإبراهيم بن عبدالله الحميضي: «سلامي عليكم يا أهل السامريه عدد ما يهل من السحابه مطرها حلاة الطرب في الليلة الخرمسيه الى غاب عن عفر الكواكب قمرها(3) حلاة المشي بين الغصون النديه الى منها قام يتفتح ثمرها تسليك وتداوي الجروح الخفيه وتجلي عن النفس الحزينة كدرها» وفي الصور الفنية الممزوجة بالتأمل، يأتي (نداء الصاحب) حيث يفكر الصديق مع صديقه بصوت مرتفع، ويريد أن يشعره بما يشعر به.. يقول الأمير خالد الفيصل: «الوقت لو زان لك يا صاح ما دام ياسرع ما تعترض دربك بلاويها حتى وليفك ولو هيّم بك اهيام صيور الايام تجنح به عواديها» ولا يحلو الإبداع بلا مشاركة: حيث ترى بطلاً يعجبك فلا بد أن تأخذ صديقك ليراه.. وحين يبهرك منظر طبيعي ساحر تتلفت تبحث عن الأصحاب كأنما تناديهم ليحسوا بالنشوة التي تحس بها، وبالانبهار، يقول أبو تمام: «يا صاحبي تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهاراً مشمساً قد شابه زهر الربا، فكأنما هو مقمر دنيا معاش للورى حتى إذا حل الربيع فإنما هي منظر» هوامش: (1) ضبارم: الشجاع. (2) طبت: وقفت عن السير إعجاباً بروعة المكان، والحران: الوقوف بعناد. (3) الخرمسية: شديدة الظلام، والكلمة فصيحة، وتطلق على الليلة التي غاب قمرها وغارت نجومها.