صدر للشاعر والباحث الأستاذ خالد بن محمد الخنين كتاب في ثلاث مجلدات بعنوان نجد وأصداء مفاتنه في الشعر وقد عمل فيه الباحث على جمع معظم إن لم يكن كل ما قيل في نجد من الشعر العربي الفصيح على امتداد الزمن من العصر الجاهلي إلى عصر النهضة وقد جاء في مقدمة الكتاب للباحث الحنين.. حين بزغت خاطرة اعادتي لطبع كتابي «نجد ومفاتنه الشعرية» لإيفاء موضوعه ما هو خليق به من المعاني الجليلة، صح مني الزماع على إصداره أكثر غنى واخراجه أوسع شمولا، وتبغيت منه أن يكون وعاءً أترعه اختيارات من الشعر العربي قصيداً ومقطعات، منذ عرف الشعر في جاهلية العرب عن امرئ القيس بن حجر الكندي حتى شعراء عصر النهضة في القرن العشرين للميلاد. ومن نفل القول أن من ينهد إلى اصطفاء شيء أو اختياره من شأنه أن يفزع إلى حكم الذوق في استجادته واستحسانه وميل النفس والطبع إليه، لم يكن شأني في اقدامي على القيام بهذا الاختيار كذلك، على ما في نفسي وطبعي من نزوع ورغبة في إحقاقه لما جبلا عليه من عشق لأفانين الجمال في هذا الضرب من الابداع الانساني: الشعر. لم يكن ذلك شأني، بل سلكت وجهاً لآخر في الاختيار، لزتني إليه ظاهرة عجب تدعو إلى الوقوف عندها طويلاً، فوقفت، تلك هي ظاهرة كثرة ذكر نجد ومفاتنه في الشعر على مر العصور، وتردد دوران ايراده في قصائد شعراء العربية، رحت ألمس دواعي ذلك وأسبابه، فلم أطل ولم أعن فأنا ابن نجد ومنبتي ومنشئي في مربع من مرابعه، أصبتها بيسر، فثمة أمر أشبه بالإعجاز أو السحر اختص نجد به وتفرد، نقرأ في المأثور: «إن لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص»، ونجد إقليم في شبه جزيرة العرب، فهو إذن من الامكنة، وبداهة فهو يحمل من النعم الإلهية خواص يتفرد بها ويمتاز. يتفق البلدانيون من الرحالة على أن في الدنيا ثلاث بقاع نزهة، ذات أفانين من جمال الطبيعة: رياض، وجنات، وأنهار، وغدران، وأزهار، وورق، وخمائل، وظلال؛ تلك هي: صغد سمرقند، وغوطة دمشق، وشعب بوان في فارس الذي يقول فيه أبوالطيب المتنبي: مغاني الشعب طيبا في المغاني بنزلة الربيع من الزمان يقول بشعب بوان حصاني أعن هذا يسار إلى الطعان أبوكم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان قال البلدانيون: «إن هذه البقاع جنان الدنيا»، جنان الدنيا النزهة الثلاث هذه كان حظها من الشهرة وطيرورة الصيت وذيوع الذكر في الشعر فليلا، على حين نجد ذكر نجد بمفاتنه مبثوثا بث الفراش في قصيد الشعر العربي، ويبدو أن هذا الاقليم من الأرض قد استقام له من أفانين مقومات الفتنة في جمال الطبيعة ما لم يستقم لتلك البقاع الثلاث استيفاء وكمالا وتنوعا وأشكالا، بطاح مبسوطة، جبال سامقة، وديان سحيقة، أجارع خصبة، فياف ومفازات مترامية الأطراف، واحات ظليلة، غدران وأنهار يصل بأمواهها الحصا، غابات فيها السدر والسلم والطلح والبان، وفيها الآجام تأوي اليها سباع الوحش، ودوح وأيك يتخذ فيها اسراب الطير وكناتها، ورق الحمائم وصنوف العنادل، مرابع ورياض يعمها جميم النبت والزهر تمر به نسمات الصبا وأرواح القبول فتحمل من نفح طيوب الشيح والخزامى والقيصوم والرند والخيري والورد عطراً، فلوات هي مسارح للمها والجياد والظباء آرامها ويعافيرها، تجوب فيها مواكب عيس الظعائن طولا وعرضاً. مزن وديم وسحب تزجيها الأهوية والأرواح فتأتي بملث الغيوث وصيب الأمطار، يتقدمها بشائر من خفق البروق ولمعانها، ونذر من هزيم الرعود وزمجرة الصواعق. طبيعة ضمت في غناها أفانين الجمال، وجمعت في ثرائها مدهشات المفاتن، كل ذلك جمع واختزل في هذا الاقليم - نجد - فغدا فيه مضارب الأمثال ومظان التمثيل والتشبيه لمن يبتغي أن يمثل أو يشبه. ونجد آهل بالناس منذ دهارير الدهر، يرفلون بالتنعم بما من الله عليه من ضروب الجمال في الطبيعة، وهم أهل فصاحة وبلاغة وحسن بيان، نبغ فيهم شعراء أبدعوا شعراً سارت به الركبان، وشدي به في المحافل والأندية والأسواق، ومهر هؤلاء في القدرة على الإفادة مما في طبيعة نجد من ثروة جمالية وتوظيفها في تقميص المعاني المجردة بالتشبيه والتمثيل لإغناء الخيال وابداع الصور الشعرية، كان ذلك دأبهم في النظم، وذلك من طبيعة الأمور. يطرأ على نجد ناس من الشعرا في سفر أو عبور أو اقامة، فتأخذهم أساليب النجديين من الشعراء، ولا يرون في محاكاتهم ضيراً أو بأساً، فيأتون في أشعارهم بما يرد من ذلك عند النجديين. في الأصقاع النائية من البلدان شرقاً وغرباً شعراء، روي في محافلهم ونواديهم شعر النجديين فيروقهم ما صنع هؤلاء في إغناء المعاني الشعرية جمالاً بالتشبيه بالمغاني والمفاتن النجدية كما فعل النجديون، فيحاكونهم ويصنعون صنعهم، وبذلك انبثت كلمة نجد بما تحمل من أفانين الفتون وجمال طبيعة مغانيه في شعر العرب مشرقيه ومغربيه ماضيه وحاضره. ثم جمهرة من شعراء العربية احتفلوا بنجد ومغانيه ومفاتنه، فغنوا هذه الأفانين في شعرهم قصائد أفردوها لهذه الغاية إعجابا وإطراءً، ونسيباً وتشبيباً وغزلاً بغانياته والفاتنات والغيد، ورسائل شوق وحنين ورجاء في العودة إلى ما نأوا عنه وحرموا من التقلب بما أنعم الله على نجد من خيرات الطبيعة، ولواعج حب وادكار اذا قدر لهم أن يهجروا نجداً أو يعصف بهم نوى عنه. شاع ذكر نجد في الشعر وكثر، سواء في ذلك قصائد أفردت لنجد ومفاتنه أم كانت هذه المفاتن والأفانين الجمالية النجدية مادة ومعطيات يفيد منها الشعراء ويوظفونها في التخيل وصياغة الصور الشعرية وعرضها غنية بتلك المفاتن والأفانين، أو في تقميص المعاني المجردة بالمشخصات من ذلك لتقريبها من الأذهان، كثر ذلك وذاع في قصائد ومقطعات وأبيات مفردات تحمل كلها ذكر نجد ومفاتنه منذ عرف الشعر مرويا مدونا إلى ما ينظم منه في العصر الحديث. قصصنا ذلك وتتبعناه، فأصبنا منه الكثير الغفير، ولممناه، فاستقام لنا منه شعر كثير: قصائد ومقطعات وأبياتاً مفردات، منه المعزو الذي عرف ناظموه، ومنه ما أغفل قائلوه وسيق استشهاداً أو تمثيلاً لغاية لغوية أو نحوية أو بلاغية، فيؤتى بالبيت المفرد، أو بالمقطعة لا تربو عن بيتين أو ثلاثة على أكثر تقدير. ٭٭٭ استقامت لنا هذه الجمهرة الغنية العريضة من النصوص الشعرية كان مبلغها: «759» تسعة وخمسين وسبعمائة نص، وعدد الشعراء ناظميها: »215« خمسة عشر ومئتي شاعر، فرحنا نلتمس سبيلاً إلى جمعها وتيسير إيصالها إلى من يبتغي أن ينال منها سؤله، فاخترنا منهجاً مدرسياً لتصنيفها في سفر يجمعها بعد أن ائتمرنا طرائق التصنيف في كتب الاختيارات الشعرية، وأعرضنا عن المناهج النقدية في جمع الشعر، لإدراكنا أن المنهج المدرسي، وإن ابتعد عن النظر النقدي في الإبداع الشعري، أيسر سبيلا وأقربه لإنالة القارئ مبتغاه مما يعنيه من مثل هذا التصنيف. اعتمدنا المنهج المدرسي هذا، فوزعنا جماعة الشعراء أصحاب الشعر المختار بين فريقين: أ- شعراء مشرق العالم الإسلامي. ب- شعراء مغرب العالم الإسلامي في الأندلس والمغرب الأقصى. ثم عمدنا إلى الشعراء المشارقة فاعتمدنا في ترتيبهم السياق التاريخي في منهجنا المدرسي المختار. وصنفناهم زمراً وفق انتماءاتهم إلى العصور التاريخية والعهود الدولية السياسية المتعاقبة، كل زمرة تنتمي إلى عصر أو عهد من تلك بدءاً من عصر جاهلية العرب حتى العصر الحديث حيث النهضة. فاستقام لنا من ذلك أربع عشرة زمرة من الشعراء. رتبنا هذه الزمر في سياقها التاريخي على التعاقب الزمني لتلك العصور والعهود، فخرج لنا بذلك: ٭ شعراء في العصر الجاهلي. ٭ يتلوهم مخضرمو الجاهلية والإسلام. ٭ بعدهم شعراء إسلاميون وأمويون. ٭ ثم يتلوهم مخضرمو الشعراء بين عهد الدولة الأموية وبين الدولة العباسية. ٭ ومن بعدهم شعراء في العصر العباسي. ٭ يتلوهم مخضرمو شعراء هذا العصر الذين أظلهم من بعده عهد الدولة الفاطمية. ٭ يعقب هؤلاء شعراء في العهد الفاطمي. ٭ ثم يأتي بعدهم مخضرمو العهدين الفاطمي والأيوبي الذي يعقبه. ٭ يتبعهم شعراء عاشوا في عصر الدولة الأيوبية. ٭ يتلوهم شعراء مخضرمون بين العهد الأيوبي والدولة المملوكية من بعده. ٭ ثم تأتي زمرة شعراء في عهد الدولة المملوكية. ٭ وهنا نقطع السياق التاريخي لنقحم فريق شعراء الأندلس والمغرب العربي الأقصى بين العهدين المملوكي والعثماني، ولم نلتزم السياق التاريخي في توزيع هؤلاء الشعراء زمراً على العصور كما فعلنا في توزيع فريق الشعراء المشرقيين لأنهم لايصدق عليهم السياق التاريخي الذي اعتمدناه في ترتيب زمر الشعراء المشارقة، بل جعلناهم زمرة واحدة يتعاقب أفرادها وفق السياق الزمني في وفيات الشعراء في هذا الفريق. ٭ نعود إلى زمرة شعراء عاشوا في ظل دولة بني عثمان. ٭ يعقبهم شعراء مخضرمون بين العهد العثماني وعصر النهضة. ٭ تتلوهم آخر زمرة من الشعراء عاش نفر من أفرادها حتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. وبذلك استقام لنا خمسة عشر فصلاً لخمس عشرة زمرة، أربع عشرة منها تتابعت في ترتيبها وفق السياق التاريخي للعصور، وفصل فيه زمرة شعراء الأندلس والمغرب اعتمدنا فيه الإطار الإقليمي جامعاً بين أفراد الزمرة. زمر الشعراء هذه سواء منها المتتابعة وفق السياق التاريخي أم التي ضم أفرادها الإطار الإقليمي، كل منها تضم نفراً من الشعراء يقلون في بعضها ويكثرون في بعض، نأخذ الزمرة ونقوم بترتيب من تضمهم في إطارها من الشعراء، واعتمدنا السياق الزمني في ذلك الترتيب. فمن كان منهم أسبق وفاة كان المقدم في الترتيب بينهم. أما من لم نصب له تاريخ وفاة أو ولادة فجعلناه لحقاً في آخر أفراد الزمرة. ولم نعتمد السياق المعجمي في ترتيبهم وفق حروف أسمائهم في الزمر، لأن التماس أحدهم في فهرس أسماء الشعراء الذي نذيل به كل جزء من الكتاب أيسر في الكشف نيل المبتغى. قصائد الشعر التي اصطفيناها لورود ذكر نجد فيها كلها معزوة إلى أصحابها الشعراء وأعرضنا في الاختيار عما لم يعز إلى قائله ولم نتهد إلى معرفته. وتفاوتت أعداد القصائد والمقطعات المعزوة بين شاعر وشاعر، فمنهم من لم نصب له من الشعر في نجد إلا قصيدة أو مقطعة، وآخر نقف له على قصائد أو مقطعات كثيرة قد تناهز الأربعين أو تزيد، وهكذا يتراوح عدد القصائد والمقطعات الحاملة لذكر نجد قلة وكثرة بين الشعراء. استقام لدينا الآن عدد طيب من الشعراء ومالهم من شعر ورد فيه ذكر نجد، وأضحى تصنيفهم مع أشعارهم أمراً ميسوراً، اصطنعنا له منهجاً غاية في البساطة ودقة الترتيب، نتناول الشاعر ونبوِّئه موضعه في زمرته وفق السياق الزمني حسب تاريخ وفاته تأخيراً أو تقديماً، ونصنع له ترجمة نتوخى فيها الإيجاز والتكثيف وإبراز أهم المعطيات المغنية الكاشفة عن أهم مقومات حياة الشاعر، ولادة إن أمكن، ونشأة وتكويناً وبياناً لطرائق الإبداع لديه، ثم ذكر تاريخ وفاته. - الأقاليم والبلدان والأماكن والمياه ومافي بابها. - الأقوام والشعوب والقبائل والجماعات وما في بابها. وبعد: فقد كنا شئنا لهذا الكتاب أن تكون أجزاؤه الثلاثة سفراً كبيراً يضم بين دفتيه اختيارات من قصائد الشعر مقصورة على ذكر مفاتن نجد كما كان عليه منهجنا في الطبعة الأولى التي أصدرناها لهذا الكتاب؛ ونشاء الله أن يمن علينا بعزم أصبنا به صيداً لم نكن نتوقعه في حسباننا حين كنا نمعن في قصد قصائد الشعر العربي من بداياته في الجاهلية عند ذي القروح الكندي حتى عصر النهضة، كان صيدنا الثمين ذلك ديواناً يؤرخ للشعر العربي يضم نماذج وأمثلة من عاليه ودانيه، مطبوعه ومصنوعه، رائقة وكدره بليغه وسفسافه، رصينه ومهلهله، فبلغنا الله بكرمه الحسنيين: ما كنا ننوي صنعه وإخراجه، وما خرج لدينا مصادفة، بعد أن جهدنا في هذا السبيل عظيم الجهد، ولقينا فيه نصباً أي نصب؛ ونرجو أن نكون قد أصبنا بذلك المقصد والغاية فنحرز الأجر بتقبلة، وإن أخطأنا إدراك المبتغى فحسبنا أننا بذلنا في الجهد والمصابرة الوسع ولم نضن، والله المستعان والموفق إلى قصد السبيل.