لقد قادني التأمل الكثير في عظمة ديننا الإسلامي إلى التفكر في مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، ووجدت مرجعاً لذلك وهو الدليل الإرشادي إلى مقاصد الشريعة الإسلامية الذي نشره - في خمسة مجلدات - مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية وتبين لي أن التعمق في المقاصد الشرعية وفهمها فهماً صحيحاً شرط لازم لإدراك سمو أحكامها كما هي عادتي في كل سنة كان شهر رمضان الكريم فرصة سانحة للمزيد من القراءة والتأمل، وتذكرت الأيام الخوالي أيام شبابي، وكيف كنا نعيش أيام الشهر ولياليه، وقارنت بين ذلك الزمان وبين زماننا المعاصر؛ حيث إن غالبية الناس في ذلك الزمن - مع ورعهم، وتقاهم، وقلة علمهم - كانوا أقل مماحكة بسؤال العلماء الشرعيين وطلب الفتوى منهم في تفاصيل تصرفاتهم مما هو معروف حكمه بالبديهة. أما في هذا الزمان فإني أرى أن الغلو قد بلغ بنا مبلغه، وأصبح الكثير منها يطلب الفتوى الشرعية في أمور مكررة ومعادة ومعروفة أحكامها، ولا علاقة لها بجوهر الدين، ومع اغتباطي الشديد بالتوجيه السامي بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء ومن يختارونهم لهذه المهمة من العلماء الآخرين، إلا أني أرى كذلك ألا تكون الفتوى المنشورة على الملأ في وسائل الإعلام المختلفة - من الذين خولهم ولي الأمر بالقيام بها- إلا في الأمور الجوهرية وليست في قضايا جزئية معروفة أحكامها ولا تعني الغالبية العظمى من المسلمين، وللتدليل على ما أقول.. فلقد أنصت لبرنامج إذاعي يتحدث فيه العالم بإسهاب عن حكم الحجامة في نهار شهر الصوم واستغرق في شرح أقوال الفقهاء السابقين المختلفة تفسيراً للحديث الشريف: «لا صيام لحاجم أو محجوم» وهل هذا الحديث يؤخذ على ظاهره أم غير ذلك.. وانتهى البرنامج دون أن أعرف الحكم الشرعي هل الحجامة تبطل الصوم أم لا؟ وذلك نتيجة ذكر المتحدث للآراء المتباينة لشرّاح ذلك الحديث. ** ** ** وكان السؤال المُلح على خاطري وأنا استمع إلى ذلك البرنامج الاذاعي هل هذا مما يهم الناس، ومن هو المضطر الذي سيحجم في نهار رمضان؟ وهل لمثل هذا السؤال والجواب عنه أولوية على ما عداهما؟! ومثل الأسئلة المتكررة عن القطرة في العين في نهار رمضان، أو استعمال الدواء البخاخ الذي يخفف من أثر الربو للمصابين به، من مبطلات الصوم أم لا.. والرأي عندي أن يكون جواب المفتي للسائل في هذه الجزئيات ليس عبر وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المكتوبة بل - إن كان ولابد - فلتكن بين السائل والمسؤول. ** ** ** ومما هو جدير بأن نمعن النظر في حكمة نشره على الملأ من عدمها هو تلك الفتاوى عن حالات فردية يسأل عنها واحد أو أكثر من الناس أحد علمائنا وهي حالات خاصة وقد تكون نادرة الوقوع.. ذلك أنني قرأت مقالة أستاذي الجليل فضيلة الشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع في جريدة «الرياض» يوم الثلاثاء 14 رمضان 1431ه بعنوان: (نافذة على المجتمع) (فتاوى) وشعرت بأن الحديث والفتيا عما سألته السائلة في ذلك الموضوع مما لا ينبغي نشره أو اذاعته في أي وسيلة إعلامية، والسبب في ذلك أن تلك الممارسات الشاذة التي أجاب عن أحكامها شيخنا هي أعمال تقشعر منها الجلود لفظاعتها، وأنها - إن شاء الله - ليست سائدة في مجتمعنا المسلم، وقد يوحي النشر عن هذه الممارسات البشعة لبعض الناس أن هذا المجتمع تسود فيه مثل هذه الانحرافات الأخلاقية، بل إنني أخشى أن يظن المناوئون لديننا أن مثل ذلك السلوك هو الشائع بيننا - وفي المقابل فقد يجرؤ بعض أهل النفوس الضعيفة على أن يمارسوا ما وجدوا أن أناساً غيرهم مارسوه قبلهم، ولو أن شيخنا - عوضاً عن ذلك - أفتى للسائلة بينه وبينها، وتحدث في مقالته الصحفية عن فضائل الإسلام ومنها حثه على أن تكون العلاقات الزوجية علاقة راقية شريفة يتمثل فيها الوفاء، والعشرة الحسنة، والاحترام المتبادل بين الزوجين، وأن أي أحد من الزوجين عليه مناصحة الآخر فيما لو رأى منه سلوكاً غير مشروع - فإن لم يستجب ويقلع عن المحظور فعليه رفع الدعوى أمام القاضي، والشريعة الإسلامية كفيلة بتحقيق الحق والعدل والإنصاف.. أي أن تكون مقالة شيخنا اجمالية ايجابية مما يجعلها - في رأيي - أعم نفعاً وأقوى أثراً. ** ** ** إنني أدعو إلى ابراز قيم الدين العظيمة، وتبصير الناس بحقيقة الإسلام وأنه دين يحقق السعادة لمن التزم بمثله وأخلاقه، وهو دين يسر ورفع للحرج عن اتباعه تأسياً بهدي رسولنا العظيم، فحين تعددت الأسئلة له من أصحابه في حجة الوداع كان جوابه المتكرر «افعل ولا حرج» وبتعاليمه صلى الله عليه وسلم بأن (الحلال بيّن، والحرام بيّن)، وأن (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر)، (واستفت قلبك). ** ** ** رحم الله شيخنا سماحة مفتي بلادنا السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ لقد كان عالماً حكيماً إذ كتبت له خطاباً مطولاً من مقر دراستي في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1386ه اسأله عن بعض ما ألاقيه من مشقة في أداء الصلوات في أوقاتها، وعن بداية شهر رمضان - إذ لم يكن عندنا في ذلك التاريخ وسائل اتصال مثل عصرنا الحالي بما في ذلك الهاتف فقد أمضيت ست سنوات في الغربة لم أكلم أهلي فيها هاتفياً لأنه لا وجود له عندهم - وغير ذلك من الأسئلة. وكان جوابه كله تيسيراً، ختمه بالقول إن المهم هو الحرص على تعميق الايمان بالدين الإسلامي والتقيد بتعاليمه، مع التمسك بأهداف الفضيلة، وتجنب المحرمات، وما عدا ذلك فقد وجهني سماحته بالاجتهاد، وتحري الصواب من باب قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم). ** ** ** لقد قادني التأمل الكثير في عظمة ديننا الإسلامي إلى التفكر في مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، ووجدت مرجعاً لذلك وهو الدليل الإرشادي إلى مقاصد الشريعة الإسلامية الذي نشره - في خمسة مجلدات - مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية وتبين لي أن التعمق في المقاصد الشرعية وفهمها فهماً صحيحاً شرط لازم لإدراك سمو أحكامها.. لقد احتوت هذه المجلدات تلخيصاً لكتب، ورسائل، وأبحاث في هذا المجال، وحريّ بكل من يتصدون للفتوى وضع تلك المقاصد الحكيمة أمام أنظارهم في كل ما يسألون عنه من أمور الدين، فبمعرفتها تقاس الأمور، وتتحدد معالم الحلال والحرام. ** ** ** ومن الكتب التي لخصها المجلد الخامس من ذلك الدليل الإرشادي كتاب بعنوان: (وسطية الإسلام وواقعيته) للدكتور حسن الترتوري، والفصل الثاني من ذلك الكتاب عنوانه: (الأحكام الشرعية بين الثبات والمرونة) وفيه يقول: «الأصل في الأحكام الشرعية في العبادات هو عدم التغير، ويمكن أن يتغير الحكم الشرعي العملي المستند إلى العرف إذا تغير العرف أو الحكم الشرعي العملي المستند إلى المصلحة إذا تغيرت المصلحة، أو الحكم الشرعي العملي المعلق على علة إذا انتفت العلة، أو الحكم الشرعي العملي الذي صحبته الضرورة، وذلك ليتحقق مناط الحكم المقصود للشارع، أي لتتحقق الحكمة» ويمضي المؤلف شارحاً: «وقد شرعت الأحكام لصالح العباد، فإذا لم يعد الحكم محققاً للمصلحة، بأن كان مبنياً على عُرف وتغيَّر ذلك العُرف، أو كان مبنياً على مصلحة وتغيرت تلك المصلحة أو كان معلقاً على وصف وانتفى ذلك الوصف أو طرأت ضرورة صحبت ذلك الحكم، فإن الواجب على المجتهد مراعاة ذلك العرف أو تلك المصلحة أو الضرورة» وفي هذا المبحث بيان للأحكام التي يمكن أن تتغير والأحكام التي لا يمكن أن تتغير، وأمثلة فقهية عليها، مع ذكر أقوال العلماء التي تتضمن النص على تغيير الحكم وسببه. ويخصص المؤلف هذا المبحث للأحكام التي لا يمكن أن تتغير، والتي تعتبر ثوابت في هذا الدين، وهي: الأحكام العقدية (ويعني العقيدة)، والأحكام الشرعية العملية التي تتضمن قواعد هذا الدين وأسسه والأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، والأحكام التي تحث على الأخلاق والفضائل، بل وجميع الأحكام الشرعية العملية التي لم تُبن على العُرف أو المصلحة أو التي لم تنط بعلة أو التي لم تصحبها ضرورة، فإنها ثابتة ولا يصح جعلها محل نظر وتغيير. ثم يقدم المؤلف نماذج لتغير الأحكام لتغير العُرف، مثل: جنس الواجب في زكاة الفطر، والتعزير بكشف الرأس أو قطع الطيلسان، ومسألة العاقلة الذين تجب عليهم دية الخطأ، وشبه العمد، وغيرها من نماذج. لقد كان الاطلاع على ملخصات هذه الأبحاث والدراسات عن مقاصد الشريعة الإسلامية ذخيرة علمية فتحت لي الآفاق وبصّرتني بما هو جدير أن أكون به بصيراً. ** ** ** ما ذكرته في هذه المقالة هو بعض من تأملاتي ومطالعاتي الرمضانية، قد أكون وفقت للصواب فيما ذهبت إليه، وقد يكون جانبني الصواب فيها كلها أو بعضها، ورحم الله من هو أوسع مني علماً، وأكثر فهماً أن يرشدني على موطن الخلل فيما ذهبت إليه (إن وجد). ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدّنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.