في ليلة سهاد سئمة، وفي ساعة متأخرة من إحدى ليالي باريس الساخنة . اغلقت الكتاب الذي كان بيدي ، فظهر وجهه أمامي على شاشة مازالت صغيرة جدا موجودة للملمات والمرض الخ . كان البرنامج ثقافيا ، والقنوات العربية كلها وبدون استثناء ، اليوم صارت الأوروبية أيضا ، تدع الشأن الثقافي لمابعد منتصف الليل . الثقافة عندنا مشتبه بها ، ومن يعدها مشبوه ، وما يطرحه يهدّد . كان وجه الفنان العراقي الكبير نوري الراوي قد ظهر من على احدى القنوات العراقية ، وجه رضي لكنه لا يخفي الضنى والشجن وهو يتحدث عن ثروته النفيسة كنزه الفني الذي يضم مجاميع اللوحات والصور، الألبومات والرسوم ، التخطيطات والادلة { البوسترات اضافة إلى الودائع والوثائق الخطية النادرة التي لا تملكها دائرة رسمية أو شخص جامع ، أو ، أو .. تغطي مساحة زمنية تربو على الثمانين عاما ، هو سن وخبرة ، تجربة وحيوية ، بلاغة وشغف وأهمية هذا الفنان في مسار الحركة التشكيلية العراقية . كان الصوت ، صوته أمامي يتغرغر بنوع من أسى شفيف لا نظير له ، وحزن قاهر شعرت به يعدي ما حوله ومن يصغي إليه ، حين كان يردد بصوت يختنق ، ثم يبلع الريق الناشف والدموع الخفية وهو يعرض أمام الملايين : انه من المناسب، بل من الضروري ان يواصل تدوين مذكراته ، ثم يلتمس العون في الحفاظ على ما تبقى من وثائق التراث الفني العراقي بعد ان تعرض لكوارث التدمير والحرق والامحاء في الحرب وما بعدها . احسب ان كل فنان ومثقف عراقي ما زال يعيش في حالة من الحداد والاحتضار ، فجرائم الاحتلال موثقة تاريخيا . المجندون والمتعاونون مع المحتل عند اللزوم يضعون اللائمة ، وفي أسوأ الاحوال على الغازي ، لكنهم يواصلون "" الحب المقدس للوطن "" . حسنا ، في النهاية جميع الدروب تؤدي للجرائم الفاحشة السفيهة والنهمة في ابتلاع المزيد من المثقفين والإعلامين ، العلماء والكتاب والاطباء ، الصيادلة وأساتذة الجامعات . الفضيلة الوحيدة في هذا البلد الجنائزي هو التسلية بالقتل والفتك والهتك ، ومكافأة الجريمة وبتقنيات متقدمة ، وبوجوه باسمة نشاهدها من حين لآخر . الفنان الراوي كنت التقي به في بغداد بين سنين السبعينيات و أوائل الثمانينيات حين غادرت العراق في العام 1982 . في أواسط التسعينيات حضر لباريس عندما أقام معرضه ، فالتقيته في المعرض وبالتالي في دارة الصديقة الرسامة العراقية سوسن سيف . كانت مجاميع لوحاته في تلك المرحلة هي ؛ الحرب تحت الانظار ، وعلى مقاعد الدراسة ، الحظر في الروح وفي الورق واللون والشذى ، وبين شراشف العوائل ، وعلى واجهات البيوت العراقية التي تفنن بها الفنان الراوي . بقي صوته يدمدم بصبر لا يقبل التسويات ، لكن لا حل إلا هذا أمامه . في اليوم التالي اجريت عدة محاولات لكي أعرف أين يقيم اليوم هذا الأستاذ ، الصديق الوفي ، هل مازال في الجحيم، أم بين بين . كانت كبرياؤه تلسع وصوته يتصدع ، وبعد أيام علمت وبواسطة الصديق الفنان والناشر العراقي هيثم عزيزة أنه في عمان . وهكذا يسمح لنا النت بمخاطبة الفنان ، فنكتب له الأسئلة من خلال ما وصلني من الوثيقة / النداء الذي قام بتوجيهه إلى منظمة اليونسكو بواسطة مكتبها في عمان ، قلت له :- * حين سمعتك في المحطة الفضائية قبل فترة , وأنت تشرح مشروعك , ثم وصلني المشروع أيضا . درسته جيدا , أنت تعني انك تريد وضع أرثك الفني بأسره تحت ضمانة أو مسؤولية اليونسكو بعدما لم تحصل على أية بادرة ايجابية من بلدك العراق؟ - كنت في البداية أطمح أن يكون هذا الأرشيف المنوع الأغراض والمضامين بعهدة مؤسسة رسمية عراقية تعنى بالحفاظ عليه , وتوفر له الفنيين الأكفاء للقيام بمهمات التسجيل والصيانة والحفظ , غير اني عدلت عن ذالك بسبب الاوضاع المتردية التي آل اليها العراق , واتجهت الى منظمة اليونسكو باعتبارها المؤسسة الدولية الراعية للثقافة والتراث في العالم , فلم استلم منها جوابا على مذكراتي الخمس التي قدمتها الى مراكزها في بغداد وبيروت وعمان ودمشق . * ألا يتوق اولادك أو احفادك للاحتفاظ بهذا الأرث ؟ هل صاروا هم أيضا غرباء عنه , وعن بلدهم ؟ - كان هدفي الأول يتمثل في نقطتين أساسيتين هما : أ القيام بمهمات الخزن الأمين الذي ينجيه من التلف والأيدي العابثة , ثم القيام بعمليات التسجيل بالأجهزة الحديثة تمهيداً لتزويد مكاتب الدوائر الرسمية المعنية بالثقافة , ومكتبات الجامعة وكلية الفنون ومعهد الفنون , ليصبح بين أيدي الباحثين والدارسين وطلبة الدراسات العليا في الفن . ب ولما كان ابناىّ المؤهلان لهذه المهمة يقيمان خارج الوطن ( الأول في فرنسا والثاني في أمريكا ) وقصور أحفادي عن استلام هذه التركة , فقد بات عليَ أن أودع هذه الأمانة الوطنية في أيدٍ أمينة لتصبح في النهاية مشروعاً ثقافياً يؤدي مهمته المرجعية , إضافة الى تفعيله وانقاذه من الضياع . * ماهي شروطك المعنوية والشخصية , وربما المادية فيما إذا تقدمت جهة ما , إعلامية , صحافية , أو فنية للتباحث معك حول هذه الثروة الفنية ؟ - أترك تقدير ذلك للجهة الراعية , بعد اطلاعها على مفردات المشروع , وتقدير ماتراه مناسباً لمضامينه من مكافأة مادية ومعنوية , على مايضمه من نوادر الوثائق والمراجع الفنية والمعرفية التي لا تتوفر لدى أي شخص أو مؤسسة أو دائرة ثقافية في العراق . *في حالة رفضه من جميع الجهات ومن جميع المؤسسات , ترى ماهي البدائل المطروحة أمامك ؟ -ليس هناك بدائل . لذلك سألجأ الى إمكاناتي المادية المتواضعة في تأمين دواليب خشبية لخزن مواد المشروع , بعد تصنيفها حسب مواضيعها ثم اترك الباب مفتوحاً أمام أية مؤسسة عربية أو أجنبية تبادر الى مساعدتي في المستقبل . *ماذا تفعل في أيامك- اطال الله عمرك –في عمان بعدما سمعت ان درجة التزوير لأعمالك على قدم وساق , فلماذا لاتقوم برفع الدعاوى على كل هذا الفساد وشراء الذمم والإفساد المنهجي في جميع مرافق الحياة ؟ نوري الراوي - ليس هناك من سبيل لتفادي مثل هذا المرض الخطير القاتل الذي استشري في المجتمع العراقي , بعد أن اتخذت ( مافيات ) التزوير من دمشق مركزاً لأوكارها , ولم يعد هناك من مجير لأمثالي بعد أن أصبح الفساد الشامل عنواناً لعراق الرعب والجريمة واللا قانون . فكان التزوير آخر فصول المأساة التي حلت بمشروعي الفني الرائد , وهكذا فقد حُرمت من تصريف أعمالي الفنية حرماناً تاماً , حيث لم يطرق بابي أي طارق منذ عام 2003 حتى اليوم , ولم يعد أمامي إلاَ أن اسدل الستار على تاريخي الشخصي المتوج بجلائل الأعمال وروائع الأفعال , وارتحل الى عالم الصمت الأبدي وانا أردد : ملقىً على طرقات راوة.....أستجير ولا أُجار!.. الراوي مع أحد أبنائه