بدأ الفنان ريمون شويتي مع الشاعر يوسف الخال في السبعينيات من غاليري "وان" في بيروت الذي اشتهر كأبرز الملتقيات الثقافية في الوطن العربي، حيث جمع حينها كبار الشعراء والمثقفين من أمثال أدونيس وشارل مالك ورياض فاخوري وناديا تويني وتيريز عواد بصبوص، كما استقطب أهم التشكيليين العرب والأجانب من لؤي كيالي ونزيه نبعة وضياء العزّاوي وميشال بوتور وغيرهم، وكان الغاليري عبارة عن معرض دائم أداره شويتي لسنوات قبل أن يُنهب وتقفل أبوابه عقب اندلاع الحرب الأهلية وينسحب يوسف الخال إلى ربوع بلدته الجبلية غزير، فيما بقي شويتي متشبثاً بعمله وافتتح غاليري "همزة وصل" الذي أراده نقطة التقاء ما بين "البيروتين" المسيحية والمسلمة، لكنه ما لبث أن أقفله بعدما عنفت الحرب وتعرّض للخطف على أيدي الميليشيات المسلحة، فهاجر برفقة عائلته إلى أستراليا ومن ثم استقر في الرياض. وظّف الفنان شويتي خبرته التشكيلية في تصميم الأعراس والمناسبات الملكية وأصبح واحداً من أهم المصمّمين العرب في هذا المجال، يستعيد في حديثه ل"الرياض" المرحلة الذهبية من حياة لبنان الثقافية في السبعينيات "حيث كان غاليري "وان" الذي يملكه الشاعر يوسف الخال يستقطب معرضين تشكيليين في الشهر لفنانين عرب وأجانب أذكر منهم لؤي كيالي الذي ذهبت إلى حلب بنفسي لأقنعه بالمشاركة. كانت المعارض والأمسيات تشهد إقبالاً واسعاً جداً على خلاف ما نراه اليوم من حركة ضئيلة لهذا النوع من الأنشطة، وكانت زيارة المعارض من أولويات اللبنانيين، كان لافتاً حركة شراء اللوحات التشكيلية، إذ لم يكن أي معرض يبيع أقل من ربع معروضاته في يوم الافتتاح وحده، وأذكر أول معرض أقامه لي الخال باع عدداً كبيراً وبأسعار وصلت إلى 150 ليرة للوحة علماً أنني كنت مبتدئاً. أذكر أن الشاعرة مهى بيرقدار زوجة يوسف الخال كانت تُحضر معها عند كل افتتاح شمعداناً نحاسياً كبيراً من منزلها تضيئه بالشموع لإيمانها بأنه فأل خير، كان يوسف الخال يُمضي جلّ وقته في الغاليري كان يترجم الكتاب المقدس حينها ويلتقي يومياً المثقفين الذين يعرّجون عليه مثل الشاعر أدونيس الذي كان يمر بشكل شبه يومي ومثله عارف الريس وعبده وازن وعقل عويط وجاد الحاج وهؤلاء كانوا في بداية طريقهم على دروب الثقافة".. ريمون شويتي * هل كانت الحرب وراء قرار الخال إقفال الغاليري؟ نعم فقد تعرّض الغاليري للنهب عشية الحرب، إذ سرقت لوحات مهمة جداً لعمر أنسي وآخرين، أذكر عندما اتصل بي يوسف الخال ليخبرني كان في صوته غصة وحزن عميق، بعدها بفترة تعرّضت بدوري للخطف وهكذا لم نعد نذهب وقرّر الخال إقفاله، وقد حاول لاحقاً مستثمرون أن يفتتحوه مجدداً وطلبوا مني إدارته لكني رفضت ولم يُكتب لمشروعهم النور. * منذ متى بدأت مسيرتك التشكيلية؟ من صغري والفن يستهويني والقراءة هي إحدى هواياتي المفضلة، كان لدى والدي مكتبة كبيرة مهمة يرفض أن يمسّها أحد منّا خوفاً على الكتب، كنت أكتفي بقراءة عناوين الأغلفة وأسماء الكُتّاب من خارج زجاج المكتبة، كنت أرسم بالحبر الصيني لكن ظروفي المعيشية الصعبة حالت دون انتسابي إلى معهد للفنون وكذلك رفض والدي، وعندما دخلت إلى إحدى مدارس الديكور الليلية بدأت تتفتّح أمامي أساليب وتقنيات الرسم والهندسة، كنت أمضي أوقات فراغي وأنا أجول على الغاليريات التي تبيع المفروشات وعلى المكتبات وأمضي ساعات طويلة في مكتبة "أنطوان" خصوصاً لأطّلع على كتب الفن و"الديزاين" لأنني لم أكن أملك ثمن هذه الكتب، وقد شاءت الصدف أن التقيت في أحد الكاليريات بمروّج فنون أمريكي كان يزور بيروت، شربنا القهوة معاً وكنت حينها أحمل دفتراً صغيراً عليه بعض رسوماتي بالحبر الصيني، أطلعته عليها فأعجبته كثيراً، أخبرني عن الروائية الأميركية أناييس نين التي تحب أن تشجع الشباب، أخذ كل رسوماتي ليطلعها عليهم. بعد فترة اتصل بي وأبلغني أنها أعجبت جداً بالرسومات وتريد أن تنظّم لي معرضاً في الهند لكنها تريد أن تبدّل اسمي ب "أورفيوس" لأنها رأت في رسوماتي فنتازيا معينة من جهة وكوني من بلد جبران خليل جبران الذي كانت تربطها به علاقة جيدة من جهة ثانية، كما كانت تربطها علاقة أيضاً بالفنان سلفادور دالي وغيرهما من كبار ذلك الجيل، وقد طلب مني إعداد مجموعة رسومات. فوجئت بعد فترة وأنا أفتح صحيفة "النهار" بخبر مفاده "حبر صيني لبناني في الهند" ووجدت مقالاً للصحافية لور غريب حول الموضوع مع إحدى رسوماتي، وفعلاً أقيم المعرض وحقّق نجاحاً باهراً وكتبت عنه المجلات والصحف الهندية وحاز على تنوية خاص. * معرض الهند إذن كان بداية الطريق نحو عالم الفن؟ نعم فقد أعطاني المعرض زخماً كبيراً، وأنا كنت في الفترة نفسها أقرأ وأتابع الشاعر يوسف الخال الذي كان يدير الغاليري ويشجّع الفنانين الشباب، وفي العام 1973 جمعت مجموعة أكبر من رسوماتي وحملتها لأطلعه عليها، التقيته وأخبرته عن معرضي في الهند، أعجبته جداً الرسومات وأقام لي معرضاً حاز على إعجاب الجميع وكتبت يومها عني الصحف كما كتب الناقد نزيه خاطر مقالة خيالية لم أصدّقها، وعندما انتهى المعرض ذهبت إلى الخال لأودّعه فطلب مني أن أبقى وأتسلم إدارة الغاليري، قلت له إنني لا أملك الخبرة ودائرة معارفي ضيقة، فوعدني بالمساعدة وتقديم الدعم حتى أنخرط في هذه الأجواء. أدرت الغاليري لثلاث سنوات حتى اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، تسلمت بعدها غاليري في الأشرفية نظمت فيه أنشطة وأمسيات فنية وشعرية للشاعرة ناديا تويني وبصبوص ومارون الحكيم وآخرين، نجحت في التنظيم وافتتحت غاليري خاص بي أطلقت عليه اسم "همزة وصل" أصبح مكاناً يجمع المثقفين، عملت بجانبه في إدارة محل للزهور وبدأت أتعهد تصميم أهم أعراس في البلد ومن هذه التجربة قلبتُ مفاهيم الأعراس في لبنان، بقيت أعمل تحت القصف والحرب حتى التقيت برجل الأعمال سليم يونس الذي قرّر أن يفتتح "ديزرت روز" في الرياض وطلب مني إدارته في وقت كنت أعدّ فيه نفسي للهجرة إلى أوستراليا مع عائلتي الصغيرة هرباً من جحيم الحرب. * كيف تحوّلت من عالم التشكيل إلى عالم التصميم حتى وصل اسمك إلى أرقى العائلات والبيوت الملكية؟ كان العمل في مجال الزهور لا يزال مقتصراً على قلة في الرياض وعدد المتاجر متواضع، انطلقت في هذا العالم موظفاً تجربتي في الفنون التشكيلية وفي دراسة ديكور المسرح، ونظمت حفلات ملكية ناجحة ساهمت في وصول اسمي وأعمالي، وفي الوقت نفسه واظبت على الرسم إلى جانب تصميم الأعراس وأقمت معارض في أستراليا ونيويورك وبغداد. * عملياً كيف وضعت خبرتك التشكيلية في خدمة تصميم الأعراس؟. منصة الأعراس تشبه إلى حدّ كبير "ستايج" المسرح، أنا أصمّم الديكور وأنسق الزهور وأختار المواد من هذه الخلفية، ويظهر جليّاً تأثير الفن التشكيلي في أعمال "الديزاين" كلها حتى في أدق التفاصيل، أنظر من "باليت" الفنان عندما أبدأ تنسيق الزهور وأخلق من التناقضات اللونية السحر، وهنا يلعب دور ريمون التشكيلي السوريالي، فأنا متأثر جداً بالمدرسة السوريالية وأحب هذه المتناقضات لأنها تثير التساؤلات وتجعل التصميم أكثر قوة وجذباً. * كتاب الأعراس عمل نوعي وضخم أنتجته بالتعاون مع هاني سماحة الفنان المميز الذي صدرت له سابقاً كتب مميزة عن بيروت وبيوتها القديمة؟ في حياتي لم أهتم بإنتاجي الشخصي ولا بتصاميمي حتى تعرّفت إلى الفنان سماحة، وعندما رأيت كتبه عن بيوت بيروت ومنطقة فقرا شعرت أن هذا الشخص هو من يستطيع أن يبوّب ويوثّق عملي، وقد أدرجت في الكتاب كل الأمكنة التي احتفظ فيها بذكريات وحاز على نجاح كبير، وقد اتصلت بي قبل فترة شركة نشر عالمية وأخبروني أنهم اختاروا الكتاب من بين أفضل 15 عملا يتعلق بتنظيم المناسبات في العالم. الكتاب لم أطلقه حتى اليوم في الرياض لكنه موجود في متاجر "ديزرت روز" وفي مكتبة أنطوان في بيروت. * 27 عاماً من العمل في هذا المجال هل تجعلك الاحترافية أقلّ قلقاً؟ لا زلت كما العمل الأول، أنا أعتقد أن الفشل يصيبنا عندما يزول قلقنا ونسترخي تجاه أعمالنا، أنا لا أستسهل أبداً الأمور ولا أرحم نفسي ولا الآخرين ممن يعملون معي، أحترم كل تفصيل وأهتم بكل ما بين يدي لأن العيب يبرز قبل الجمال. * كيف تبقى على قيد الإبداع؟ الإطّلاع وزيارة المتاحف والمعارض والأبنية المميزة، وقد استوحيت في أحد تصاميمي عرساً من الخط العربي . أيضاً أمضي وقتاً غير قليل في الاستماع إلى الموسيقى، أحب صوت السيدة فيروز ومحمد عبده، أمارس رياضة التأمل، أقرأ شعر المتنبي وأنسي الحاج ومحمود درويش وبدر بن عبدالمحسن والأمير خالد الفيصل، أحب روايات أحلام مستغانمي وغابرييل ماركيز... ومن الرسامين أنا متأثر بفان غوغ ودافنشي وماغريت. * ما هي مشاريعك للمستقبل؟ ملتقى ثقافي فني في بيروت إذا ما عدت واستقررت في هذا البلد، أريد أن أخلق مكاناً شبيهاً ب"همزة وصل" وغاليري "وان" وأعود إلى هذه المناخ الثقافي في المكان الأحب إلى قلبي.. بيروت.