تعليقا على مقال الأسبوع السالف ، الذي كان الحديث فيه عن التماهي مع سلطة النسق في كتابة المرأة الشعرية ، كان تعليق من ( نجد عبد الله ) ، يشير إلى دواوين خرجت على الموروث، وفي الوقت الذي أشكر فيه تفاعل هذا التعليق ، وتواصله مع الطرح أشير إلى أن هذا الأمر أشير إليه في المقالة السابقة لمقالة التعليق ، وسيكون محور الحديث في قابل معالجة هذا الموضوع ، ابتداء من اختيار الشكل الشعري ، ومرورا بالخروج على ربقة الصمت ، وانتهاء بتشكيل رموز شعرية جديدة. فلم يكن اختيار المرأة لشكل الشعر الحر ( التفعيلة ) ، أو قصيدة النثر مجرد اقتحام لأشكال إبداعية جديدة ، تجرب فيه المرأة أدواتها وطاقاتها التعبيرية ، وإنما كان ذلك الاقتحام لقناعة من المرأة بضرورة التجديد ، والخروج على تقليدية النسق ؛ فغجرية الريف ( غيداء المنفى ) ، حين تقول : من أين أبدأ سادتي ديباجتي عتيقة .. دفاتري عتيقة وأحرفي تموت في بركان صدري .. كلها.. رديئة .. رديئة هناك حيث الشمس تبقى يومها مكفنة هناك حيث الماء صار قطعة مثلجة ومن هناك ضاعت القصيدة تناثرت في الأرصفة .. تمرغت في الوحل لا .. بل مزقتها الريح :.. .... فالنص يشي بنزوع نحو التمرد على العتاقة ، والخروج نحو أفق التمرد ، ومن ثم كان نعي الديباجة العتيقة ، والبحث عن حيوية للقصيدة في عالم التمرد والرفض. وفي نص آخر نجدها تقول (28) : يا فتنتي .. تجاوزي هذا الزمان واغسلي الجفاف لحظة المطر وحاولي تلوين سحنة الرمال حتى تسقطي تلك الدمى وتبعثين في دواخلي .. معنى الفرح لا تقتلي شهيتي بالصمت .. كوني لعنة .. وغضبا يقارع الدفوف أو ارحلي ولم يقتصر إحساس الشاعرة بالرفض ، والغربة على ما يتهيأ في عوالم القصيدة ، بل ناسبت بين تبدل اسمها المستعار ، ورحلتها نحو الآفاق الجديدة في عوالم النص ، ففي نص بعنوان الهجرة إلى المنفى ، جعلت فيه عالم تجربتها الشعرية، الرحلة من اسم غجرية الريف إلى غيداء المنفى ، نجدها تقول : أنت ! ما زلت معي في رحلة المزمار في رقصي الخرافي جميلا بين صنج الكف والخصر .. وحمأة صخبي ووسيم القوم .. يا بعضي .. يحاول دفن هذا الوجه بالنسيان لا يدرك أن الرسم والصوت معاني لغتي وشفاهي لهما .. كوخا صغيرا .. وخلية زارني الخوف فهاجرت بعيدا مع مسافات الرماد الساحلي غجر الأرياف ما زالت خطاهم تتمدد في مناف الغيد تزداد .. الأغاني الغجرية وهي التي تقول عن تجربتها في اسم غجرية الريف في هذا النص : كنت بالأمس أرتدي ثوب الغجر كنت ثقبا غيهبي النور .. والظلمة في وجه ... المطر ! . . . .... كنت أطفو فوق سرب الرفض .. في دنيا القلق كنت نارا وسط ماء بارد .. كنت لهبا لم أجد ما يهزم القيد على الأنفاس إلا سفرا مع غجر الأرياف في وهج الحرارات .. وفي قر الشتاء فكانت بسفرها في غياهب جديدة من الإبداع ، لتكون مثل المطر ، كانت مختلفة بشكل نصها الجديد وعوالمه ، فوجدت اتخاذها الاسم المستعار سفرا مع عالم الغجر ، ووجدت في ذلك تحديا وتحايلا على القيد ، الذي واجهته بالتمرد والشكل الجديد ؛ ولذلك كانت تعبر بهذا تداعيات الرفض والقلق. وفي الحقبة التي كانت تكتب فيها غيداء المنفى باسم غجرية الريف ، نجد لها نصا عموديا ، تختلف فيه التجربة الشعرية عن نصوصها الأخرى ؛ ففي هذا النص ، نجد استحضارا لصوت عاشق يخاطبها ، وكان خطابه لها بلغة النسق في رؤية الأنثى ، ومن ثم كانت المناسبة بين الشكل والنسق في هذا النص الذي تقول فيه غجرية الريف على لسان مخاطبها في لغة يتردد فيها النصح والتوجيه الذكوري : لا تكوني أشد من قسوة الليل وأعتى من وحدة لطريدي لا تكوني ذئبا يمزق أوصالي ويلقي الفؤاد رهن الجحود لا تكوني مغرورة واجهضي الكبر وكفي ، عيناك زاد جحودي يا فتاتي مزجت حبري بدمي فجفت نقاطه في وريدي وحين تقول فوزية أبو خالد: كنت أنتظر أن أجد في تركتك بذرة من جنان عدن أغرسها في قلبي الذي هجرته المواسم لكنني وجدت سيفا بلا غمد منقوشا عليه اسم طفل مجهول وحتى لا أضيعه تفتحت كل مسامي أغمدة دافئة له نجد النص الشعري الحامل لهذا الصوت القادم للأنثى ، المهيئ لها لأن تحمل سيفا ، هو القصيدة ، كما أشارت فاطمة الوهيبي ؛ يتخذ شكله الجديد الخارج ، على النسق في الشكل الشعري ، فليس بالعمودي الذي احتذته شاعرات أشرنا إليهن أعلاه ، وليس كذلك بالتفعيلي لدى شاعرات أخر ؛ لكنه الشكل الذي حمل القصيدة الجديدة لدى فوزية بما فيها من عنفوان وتمرد ، وهو الشكل الذي ارتضته ليتماهى مع الذات الأنثوية في قلقها وتمردها واحتجاجها ؛ ليكون ذلك النص الذي يخرج رغما عن محاولة الغمد ؛ تقول : غمدته في مهجتي فلم يسعه الجدار غمدته في رئتي فلم تسعه النافذة غمدته في خاصرتي فلم يسعه البيت وامتد إلى الطريق ينتزع زينة الأعياد الرسمية من المدن ويحرث المدينة لموسم عيد جديد وتقول فاطمة الوهيبي عن هذا السيف :" هذا السيف الطفل القصيدة لم يسعه المكان والصمت ، ولذا كان لا بد أن يشهر ويصبح عيدا وفرح ولادة " ولعلنا نستشف من مسام الاحتضان لهذا السيف ، وإتاحة الفرصة له بالخروج في نشوة فرح ، أن فوزية لم تشأ لنصها غمدا ولو كان بمجرد السير وفق تشكيل نسقي مألوف . وفوزية أبو خالد تنطلق في هذه التجربة عن وعي بضرورة خروج الإبداع عن النسق ، فهي التي تقول في ندوة نسائية ، عقدت لتنشر في دورية قوافل :" فالإبداع لا يكون إبداعا إذا جاء دائما متطابقا ومطيعا لكل أشكال التعبير المعلومة والمسبقة عليه .. عندها قد يسمى استنساخا أو تكرارا أو أي اسم آخر إلا أن يكون إبداعا .. " وفي نص للطيفة قاري خارج على رتابة التفعيلة بعنوان ( شاعر ) ، وكأنها تستلهم وجودا جديدا للشاعر يتشكل في ضوء تجربتها ، نجدها تقول : وأنا كون آخر ليس له ذاك الدفق الرتيب ليس له ذاك الفرح المستعار لي عتبي على رموش النخل لي تعبي الذي ليس لمثله مذاق لي محار يعد بلؤلؤة من زبد وأخرى من كبد وقيامة كبرى فكأن تجدد الرؤيا من تجدد التشكيل الذي يساوق الخروج على النسق ، ويبحث عن مؤهلات لاستقبال البشرى : واقف هنا ألوح بقصيدتي علّ سيارة يقولون يا بشرى فأهتف يا بشرى وفي إحصائية دالة عند نجلاء مطري ، اعتمدت فيها شاعرات الدواوين السبع عشرة اللائي اعتمدهن فواز اللعبون ؛ نجد النسبة بين استخدام الشكل العمودي وشكل الشعر الحر التفعيلي متقاربة ، إذ نجد من بين 690 نصا 347 نصا عموديا ، و 342نصا تفعيليا ، ولكن على الرغم من هذا التقارب إلا أنه يبقى تقاربا ظاهريا ، لكن النزوع نحو الاختلاف باقتحام تجربة شعر التفعيلة أشد لدى الشاعرات السعوديات ؛ ففي هذه الإحصائية نجد قلة الشاعرات اللائي كافأن نسبة العمودي إلى الحر ؛ فلا نجد من السبع عشرة سوى الرقيتين رقية يعقوب ورقية ناظر، ومريم بغدادي لم يكن لديهن نصوص من الشعر الحر ، والأخريات جربن الشكل الثاني في هذه الإحصائية ، أقلهن بتسعة نصوص ما عدا نجلاء السويل بنص واحد من مجموع شعرها الداخل في الإحصائية وهو تسعة نصوص ، ومما يجعلنا نعد هذه المكافأة ظاهرية أننا نجد ثلاث شاعرات يرتقين بعدة النصوص العمودية إلى 279 نصا وهن : رقية ناظر 116 نصا ، ومريم بغدادي 86 نصا ، وسلطانة السديري 77 نصا ، مما يشير إلى أن نزعة التجديد ومراودة الاختلاف لدى الشاعرات السعوديات على الأقل في الجانب الشكلي أظهر من نزعة الاستجابة للنسق في الشكل العمودي. وإذا أضفنا إلى هذين الأمرين إهمال اللعبون لقصيدة النثر ، وسير نجلاء على خطاه في هذه الإحصائية ، تأكد لدينا مغامرة الشاعرة السعودية في اقتحام التجربة الشعرية بتشكيل مختلف ، على نحو ظاهر إحصائيا.