استقبلت الأمة الإسلامية شهر رمضان المبارك مرحبة بقدومه، ومتطلعة إلى اغتنام فرصة حلوله ضيفاً للاستفادة من عطائه وهباته، والاقتباس من المعاني السامية التي تتجلى في أيامه ولياليه، إنه شهر الرحمة والغفران لما وعد الله به عباده فيه من خيري الدنيا والآخرة. وإلى جانب الأجر والثواب المضاعفين عن الأعمال الصالحة التي يؤديها المسلم في هذا الشهر نجد التحلي الجميل بالأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن الذي يتجمل به الناس في هذا الشهر من تسامح وإقبال على العبادة، والتفاف حول الأهل، وصلة الأقارب والأصدقاء حتى إذا ما حل العيد شعر الناس بالتخفف من أعباء الحياة وحساب الضمير، فاحتفلوا بما يحيطهم من طمأنينة وراحة نفس. وكم من متأمل في منهجه في الحياة، ومحاسب لنفسه وجد في هذا الشهر فرصة مواتية للانعتاق من أخطاء الماضي، والانطلاق عبر مسار جديد نحو الاستقامة والصلاح، إنها محطات في حياة الإنسان يراجع فيها حساباته ويصحح مساراته، وذلك من رحمة الله بالإنسان، ومنحه فرص العودة إلى الطريق الصحيح. ولعل من أبرز هذه الفرص تبادل التهاني بقدوم الشهر والإقبال على العبادة، والتلاقي في مجتمعاتها من مساجد وزيارات وعمرة وانتعاش في الأسواق إلى غير ذلك من الفرص الثمينة التي تقرب من صالح الأعمال. وإنني إذ أتناول هذا الموضوع اليوم فإني مدين لكل الأعزاء بالشكر والتقدير لحسن الظن بي والتهنئة، وبخاصة الأخ النوخذة المتابع القدير لما تطرح صفحة "خزامى الصحارى" من موضوعات ذات صلة وطيدة بتراثنا وحياتنا وآدابنا. والاحتفاء برمضان ليس ظاهرة معاصرة، وإنما كان الناس قبلنا يعدون العدة لقضاء أيامه ولياليه عبادة وحياة اجتماعية، بل إنهم يسمون شعبان «القصيِّر»، لما يشغلهم فيه من أعداد لشهر رمضان، ففيه تؤمن المواد الغذائية وتهيئة البيوت بالفرش والمستلزمات الأخرى، كما تشتري أقمشة ملابس العيد فيقوم النساء بتجهيزها. ولما كان اعتماد الناس في القرية والبادية على الزراعة والرعي في معاشهم فإن جادا عاشت مجتمعاتهم رغدا، وإن شحت الموارد كابد الناس عناء الحياة واستسلموا للديون وانتظار الفرج. ولقد كان الشاعر جبر السلمي من أصحاب الزراعة والرعي، وكان ميسور الحال إلا أنه كان رجلا متلافاً للمال بما ينفق على الضيوف وأهل الحاجة، ما جعل موارده لا تغطي نفقاته فتحمل كثيراً من الديون في انتظار عطاء موْرديه الزراعة والرعي، وصادف قدوم رمضان في عام قصرت موارده عن تلبية احتياجات شهر رمضان، وحاجته أكبر من أن تعالجها ديون جديدة ففكر في بيع مزرعته، وهو قرار صعب إذ أن بيع الأملاك المتوارثه من الأمور المعيبة فنصحه أحد أصدقائه بعدم الأقدام على ذلك والتماس حل آخر، فمن أين له ذلك والمشكلة التي يعاني منها مشكلة عامة فقال معبراً عن مشكلته: أخذت من كل وجهٍ مستحي ليْن ارتكى كوم تسعة وتسعين في كلفة "قصيِّر" ورمضانِ هذي وصل حدها ومرجّبة والفاقة اليوم من وين أدبرك يا زاد الأوادم والأواني؟ لقد حل موعد تسديد الديون في شهر رجب، وحاجات رمضان عبء آخر. ولقد واساه شاعر آخر اسمه عقيل بألا يبيع المزرعة، معللاً ديون الكريم بأنها لأسباب إنسانية، والكريم لا يلام إن تأخر في السداد، فقال عقيل: يا جبر لا تشتحن راع الكرم يسلم من اللوم قلبي يحدث على قلبك ويفصح لك لساني اصبر على حكم ربك وامنع الغالي عن السوم لا بد يُسْر الزمان يعيض عن عسر الزمانِ ولا بي إلا الثنين اللي تبي تفطر بي الصوم واحد لزمني وانا واقف والاخر من وزاني ويعني بالاثنين المشيب والموت. وكان الناس في ذلك الزمن يساعدون الكريم، ويسعون في دعم مروءته، فما أن أحسوا بظروف الرجل حتى تسابق الباعة إلى مده بما يحتاج من لوازم، وإمهاله في السداد. وعلى الجانب الأمني كان الناس في زمن اضطراب الأمن في بلادنا قديماً ينتهزون الفرص للاغارة على أموال الآخرين عند غفلتهم أو انشغالهم بشؤون حياتهم، قبل الوحدة الوطنية التي أسسها الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، ورعاها أبناؤه من بعده، فأصبحت بلادنا تنعم بالأمن والأمان، وانصراف الناس إلى تحسين معاشهم، حيث تنوعت الموارد وتحسنت الأحوال الاقتصادية، وأصبح الناس أكثر تضامناً وتعاونا وتجسيداً لوحدة الوطن. على أن نمط الحياة المعاش قبل الوحدة إنما كان يوماً لك ويوم عليك، وقد أصبحت أيامنا اليوم لنا، ننهل من عطائها بمقدار بذلنا المشروع، وسعينا في مناكب الأرض المعطاء. وكل عام وأنتم بخير.