لا تزال مظاهر الفساد في بعض التعاملات داخل القطاعات الحكومية تدس رأسها عن عيون الحساد أكثر من المراقبين "النائمين"؛ لأن حصاد السرقة يتصل بالظاهر المعلن أمام الناس، ويبقى "الخافي أعظم" بعيداً عن البحث والتحري، ونحن البسطاء يا "غافلين لكم الله" لا نزال متمسكين بقيم النزاهة والمواطنة - لأنها الأساس - رغم تحديات الأخطبوط المادي الكبير. "الرياض" وقفت في الحلقتين الماضيتين على مغريات الفساد من رشوة، وتزوير، واختلاس، والآثار التي تركتها، والمخاوف التي من الممكن أن تطرقها باتجاه "المواطن الشريف"، وفي هذه الحلقة لا يكفي أن نضع العلاج هنا، وإنما نسلط الضوء على بعض الثغرات التي قد تتيح المجال أمام بعض المفسدين لاستغلالها داخل الجهات الحكومية، مع إعادة النظر في أهمية سد هذه الثغرات، ونفض غبار الفساد، وتنقية المجتمع من "حراج الضمائر الرخيص" داخل بعض الإدارات. وأكد عدد من المختصين في القانون، والمحللين، والأكاديميين، ومسؤولي جمعية حقوق الإنسان، أن الدين هو المنجاة من دائرة الفساد، داعين إلى إعادة مفهوم الوطنية بشكلها الفعلي، وإعادة النظر في القوانين الجزائية في أحكام جرائم الفساد، والتخلي عن الأنماط القديمة في البحث عن المفسدين. أسباب منطقية يقول رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وأستاذ القانون المساعد بجامعة الملك سعود "د. مفلح بن ربيعان القحطاني: "إن حماية المواطن الشريف من الوقوع في الفساد المالي والإداري يقتضي التعرف أولاً إلى أسباب حدوث ذلك الفساد، ومن أهمها ضعف الوازع الديني عند البعض، وضعف أنظمة المراقبة والمحاسبة في ظل الارتفاع الكبير في الدخل الوطني؛ نتيجة ارتفاع أسعار النفط وزيادة أعداد المشروعات الحكومية، والمبالغ الطائلة التي تنفق عليها، حيث ساهم ذلك في زيادة حالات الفساد الإداري، خاصة في ظل تردي الأوضاع المعيشية، وعدم قدرة بعض موظفي الأجهزة الحكومية على الوفاء باحتياجات أسرهم، ما يساهم أيضاً في زيادة مظاهر الفساد المتمثلة في أخذ الرشوة، التي كشف بعضها تقارير هيئة الرقابة والتحقيق، إلى جانب تعقيدات تطبيق نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، ما ساهم في تأخر تنفيذ بعض المشروعات الحكومية، وعدم قيام بعض الأجهزة الحكومية بتنفيذ مشاريعها في الوقت المحدد؛ بسبب عدم وفاء بعض المقاولين بالتزاماتهم، ما يمهد لظهور بعض التصرفات والإجراءات المخالفة للقانون، والمنطوية على فساد إداري. ديوان المراقبة وأضاف: "إننا بحاجة إلى ترسيخ مبدأ المساءلة ومحاسبة المقصرين، وتمكين ديوان المراقبة العامة من القيام بدوره الأساسي باستقلال تام ومهنية عالية لإحكام الرقابة المالية والنظامية ورقابة الأداء على جميع إيرادات الدولة ونفقاتها، والتحقق من كفاءة إدارة الأموال العامة المنقولة منها والثابتة، وحسن استعمالها والمحافظة عليها، كما يلزم لحماية المال العام والحد من الممارسات غير النظامية تفعيل القرارات التي صدرت، ومنها قرار مجلس الوزراء القاضي بالموافقة على اقتراح ديوان المراقبة العامة بتأسيس وحدات للرقابة الداخلية في كل جهة مشمولة لتعزيز فعالية الرقابة الوقائية، ولعل صدور الأمر السامي القاضي بفتح حساب مصرفي باسم حساب إبراء ذمة يودع فيه ما حصل عليه الأفراد من أموال من خزينة الدولة من غير وجه حق، وصل إجمالي المبالغ المودعة فيه أكثر من مائة واثنين وخمسين مليون ريال يدفع هؤلاء الذين يتعدون على المال العام إلى مراجعة أنفسهم. نحتاج إلى دعم ديوان المراقبة وهيئة الرقابة ومنح «صلاحيات محاسبة» لمجلس الشورى حماية النزاهة ومكافحة الفساد وأشار إلى أن من أبرز إجراءات مكافحة الفساد إعلان الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد التي تتضمن إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد، ولكن ما يظهر من الإستراتيجية أن الهيئة المقترحة لا تتمتع بالصلاحيات الكافية للقيام بدور فاعل في مكافحة الفساد، ولذا فإن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان تطالب (أولاً) بتعزيز الأجهزة الرقابية ودعمها ومنها ديوان المراقبة العامة، وهيئة الرقابة والتحقيق، و(ثانياً) منح مجلس الشورى صلاحيات رقابية سابقة ولاحقة على كافة الأجهزة الحكومية من دون استثناء، (ثالثاً) تحديد إجراءات واضحة وعقوبات صارمة للمتورطين في قضايا فساد أو استغلال للسلطة بهدف الثراء غير المشروع ومن دون استثناء، كما أن الحاجة تدعو إلى قيام الأجهزة الرقابية باتباع ونهج الشفافية التامة في الكشف عن المخالفات والتجاوزات المالية والإدارية ومتابعتها مع الجهات القضائية، ومحاسبة المتورطين فيها، إضافة إلى تمكين وسائل الإعلام من الكشف عن مظاهر الفساد أياً كان الجهاز الحكومي الذي تظهر فيه، ومهما علا منصب المتورطين، إلى جانب حماية الصحفيين، الذين يكشفون عن حالات فساد، ونأمل أن يتم الإسراع بتمكين هيئة مكافحة الفساد من القيام بممارسة أعمالها، وتوسيع صلاحياتها، ودعمها بما يمكنها من القيام بمهمة مكافحة الفساد، وبما يحمي المال العام والوظيفة العامة من الاستغلال، كذلك الإسراع في تنفيذ إستراتيجية مكافحة الفساد بكافة عناصرها، ومن الضروري كذلك وضع آلية واضحة للتنسيق بين الجهات المعنية بحماية المال العام والوظيفة العامة، بما يضمن قيامها بدورها في مكافحة الفساد، ولكي لا يتسبب تداخل الاختصاصات فيما بينها في عرقلة قيامها بما هو مطلوب منها، ما يجعل المواطن الشريف في حيرة من امره. مفلح القحطاني ضعف الكفاءة الإدارية وقال "د. القحطاني" إن ضعف الكفاءة الإدارية لنسبة كبيرة من الموظفين الحكوميين، وعدم شعورهم بالمسؤولية؛ يساهم في إلحاق الضرر بحقوق الناس، ويؤخر إنجاز العديد من معاملاتهم؛ ما يجعل بعض الأجهزة الحكومية تعمل بطاقة منخفضة رغم تكدس أعداد الموظفين فيها، ويعطي شعوراً للمتعاملين مع هؤلاء الموظفين بأن بعضهم يريد الحصول على مقابل غير مشروع؛ ليقوم بانجاز ما يلزمه النظام بانجازه، ولضمان عدم استمرار هذا الوضع فلابد من التركيز في إنتاجية الموظف وليس على حضوره، فيعمل حصرا للأقسام والإدارات التي لا تحتاج إلى التعامل المباشر مع الجمهور ويربط أداء الموظف فيها بالإنتاجية بدلاً من الحضور والانصراف، وزيادة مخصصات ورواتب الموظفين المكلفين بمراقبة المشروعات والمال العام، والعاملين في الجمارك والبلديات أمر مهم للحد من الفساد، كما أن الحاجة تدعو إلى الإسراع في تعديل نظام ديوان المراقبة العامة، وهيئة الرقابة والتحقيق، - خصوصا نظام ديوان المراقبة العامة - بما يسمح له بالرقابة على صرف الأموال العامة، وتنفيذ المشروعات الحكومية، وحق طلب التحقيق مع أي مسؤول يتهم بالفساد أو تبديد المال العام. أرقام مخيفة! وأضاف أن هيئة الرقابة والتحقيق أشارت في تقريرها إلى أنها تعاملت في عام 1428ه مع حوالي 6821 قضية جنائية متصلة بالوظيفة العامة، توزعت بين التزوير 5629، والرشوة 848، وتزييف النقود 179، وإساءة معاملة واستغلال نفوذ 101، والاختلاس 64، ومع أن حالات استغلال النفوذ التي عالجتها الهيئة محدودة نسبياً، فإن الأمر في الواقع العملي ربما يكون أكثر من ذلك بكثير، فاستغلال الموظف، أو المسؤول، أيا كان مستواه الوظيفي لسلطته لأغراض شخصية، بهدف الإثراء الشخصي، أو الحصول على مزايا بالمخالفة للقانون أمر ملاحظ، ومن مظاهر ذلك انتشار الحديث في المجتمع عن حالات فساد في أجهزة حكومية، ونشر مواقع انترنت صوراً لوثائق حكومية تظهر ممارسات غير مشروعة في الحصول على المشروعات، وقد سجل التقرير السنوي لديوان المراقبة العامة صرف عدد من الجهات الحكومية مبالغ دون وجه حق أو سند نظامي والتراخي في متابعة تنفيذ عقود بعض المشروعات وتطبيق أحكامها وضعف تحصيل إيرادات الخزينة العامة ومستحقاتها وضعف التقيد بالأنظمة المالية، كما أشار التقرير إلى توفير أكثر من ثلاثمائة مليون ريال نتيجة اكتشاف هذه المخالفات والأخطاء خلال العام المالي 26-1427ه، كما كشف التقرير أيضاً أن إجمالي ما تمت استعادته لخزينة الدولة خلال الخمس سنوات الماضية من مبالغ صرفت من دون وجه حق بلغ 1200 مليون ريال. صناعة الردع ويؤكد أستاذ القانون بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة "د. عمر الخوذي" أن القوانين التي تحمي المواطن من الوقوع في الفساد الوظيفي والمالي من التزوير والرشوة والاختلاس موجودة، وهي تردع المواطن وغير المواطن من الوقوع في الرشوة أو الاختلاس، ولكن القوانين الجميلة ليس من شأنها صنع المجتمعات الجميلة، فالتعويل على النصوص القانونية في القول أو العدل أو الإنهاء في قضية الاختلاس أمر غير منطقي وغير معقول، ويستحيل أن يقع هناك ما يعرف بالردع الذاتي الداخلي، ولكن هذا الردع لا يأتي عبر القوانين، وإنما من خلال صنع هذا الردع منذ الطفولة، فمتى وجد وخلق هذا الرادع فإن الوازع الديني يكون على قمة الموانع التي تحول دون اكتساب الإنسان أيا من المخالفات المالية وغير المالية. ظاهرة متنامية وأضاف: إن الوضع القائم لدينا حالياً عبارة عن نصوص قائمة، ولكن غير مفعلة إلا القليل منها، كما أن الجهات التي تبسط رقابتها على الموظف العام ليس لديها القدرة العددية على ضبط معظم الوقائع التي تتم سواء الرشوة أو الاختلاس أو غيرها من الجرائم والمخالفات الإدارية، مشيراً إلى أن معظم هذه التعاملات المالية تتم في الظلام، ولا تكتشف، ولها آثار سلبية على ذات الشخص الذي يتعاطاها، وكل من يكون في محيطها؛ ولذلك فإن الأحكام القضائية الموجودة وهي التي تتناول عددا قليلا من الحالات، إلا أن تلك الأحكام تصدر منذ أكثر من خمسين سنة ولم تحقق أي ردع وقائي أو علاجي حتى هذا اليوم، بل بالعكس يلاحظ أن الظاهرة تتنامى مع مرور الوقت والزمن. التفكير الخاطئ أما الاستشاري والأستاذ المشارك بمركز العلوم العصبية بمدينة الملك فهد الطبية "د. سعيد هادي وهاس" فيرى أن حالة الفقر والحاجة والعوز تلعب دوراً كبيراً في انجراف المواطن نحو الفساد المالي، من رشوة وسرقة واختلاس، ولكنها ليست السبب الأساس. وقال: من الناحية النفسية، فإن من يسلك طريق الفساد من رشوة أو اختلاس يقف خلفه نمط من التفكير الخاطئ، فالإنسان يسوغ لنفسه بأفكاره ثم سلوكه؛ والسبب فيه انعدام الوازع الديني، ولذلك كلما قوي وازع الإنسان الديني وكان يفكر بشكل عقلاني يعرف بأن هذا المال المكتسب بهذه الطريقة مدعاة لعقوبة في الآخرة، وحياة في الدنيا مملوءة بالبؤس والشقاء، وبالتالي يتصف بالنزاهة، بل على العكس هناك من الناس من يحاول أن يتخلص من تلك الأشياء بشتى الطرائق؛ لذلك فالتفكير الخاطئ والبرمجة الخاطئة في التفكير هي وراء هذا الفساد من دون أدنى تأنيب للضمير، ومن دون أدنى مسؤولية؛ لأنه بتفكيره أعطى لنفسه الحق لارتكاب الفساد، فهذا الشخص يسوغ لنفسه أنه يسرق سرقات صغيرة لا تقارن بالسرقات الكبيرة، ولذلك فإن سلوك النهب والسرقة والاختلاس يأتي من عدة أسباب، أهمها: التفكير الخاطئ، والفقر والعوز، والبيئة المكتسبة التي تعلم من خلالها، حتى إن بعضهم يعد في السرقة شطارة، وذلك بمفهوم خاطئ؛ لأن الحقوق إذا لم تؤخذ في الدنيا ستؤخذ في الآخرة، أما فيما يخص تعزيز السلوك الإيجابي من أمانة ونزاهة لدى المواطن الشريف فيأتي من تقوية الوازع الديني، وهو المعزز الرئيس عند المواطن الشريف، ليبقى على مبادئه وربما تعلق ذلك بالضمير الحي. ضعف القوانين.. ويشير المستشار في علم الجريمة الاجتماعي "د.صالح العقيل" إلى نظرية في علم اجتماع الجريمة تفسّر الاختلاس؛ بأن الإنسان حينما تقل فرصه في تحقيق الثراء يلجأ إلى طريق الإبتكار، وقد تكون طرق الإبتكار تلك مخالفة للقوانين والتشريعات الموجودة في المجتمع. وقال: كلما ضعفت القوانين في مكافحة جميع أنماط الجريمة كلما أعطى ذلك فرصة كبيرة للإنسان لينزلق خلف مثل تلك الجرائم السلوكية، فالفساد الإداري مرتبط في المجتمعات المدنية أكثر من غيرها؛ لذلك فكلما زادت الضوابط الذاتية لدى الإنسان أصبح المرء في مأمن من الوقوع في هذا الفساد، مشيراً إلى الخلل في تنمية المواطنة، داعياً إلى تنمية الشعور بحب الوطن، ومحاسبة المقصرين في خدمته ممن تولوا المسؤولية، وكل من يثبت أن لديه فساد إداري يتم تنحيته عن منصبه، موضحاً أن الأجهزة المختصة لديها إجراءات غير معلنة بحق المفسدين، ولكن المواطن حينما يحجب عنه فهو يعتقد بأن الموضوع منتهي فيقوم من لديه ضعف في وازعه الديني بالإقدام على ذلك الفساد، معتقداً بأن العقاب لايتجاوز تنحية الموظف عن وظيفته؛ لذا يجب أن يكون هناك قوانين صارمة. وأشار إلى أن القوانين لا تواكب أنماط الجريمة المستحدثة، ما أوجد فجوة بين الجريمة والقانون، الذي لابد أن يطبق بحق الجريمة، فأصبح القانون لا يغطي حجم الجريمة، فحينما يُنحى مسؤول من منصبه كعقاب، فالمواطن لم يسترد كرامته والوطن لم يسترد حقه؛ لذلك لابد أن يكون هناك حزم ومحاكم تفرض قوانين صارمة على الخارجين من هذه السلوكيات.