مع الأسف لانستطيع التعامل مع الفتوى بأنها مجرد رأي يؤخذ منه ويُرد ، فالسلطة الفكرية التي تستحوذ عليها الفتوى عميقة وتتداخل مع مجمل شؤون وتفاصيل الحياة لدى المسلمين . وتتجلى في مقولة (الموقعون عن الله تعالى ) فالسلطة الفكرية التي تبلغ حد القداسة ، والتي تمتلكها الفتوى كأداة للسيطرة وتوجيه وقيادة المجاميع تجعلها ذات بنية حساسة وخطرة في الوقت نفسه ، ومن هنا بالتحديد من الصعب في عالمنا الإسلامي التعامل مع الفتوى كرأي وندرجها تحت باب الحراك الاجتماعي وحرية الرأي والانفتاح والتفاعل مع العالم الخارجي . فوضى الفتاوى تجعل المشهد شبيهاً بمجموعة من الصبية يتقاذفون قنبلة موقوتة ويتلاعبون بها بين الأزقة والشوارع ، فتاريخنا متورم بل ومثقل بالروايات والقصص المدماة لحوادث العنف والتصفيات والحروب التي كانت تحركها فتوى مقدسة ، وما تسوّرت المجاميع بيت عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا بإذن من فتوى، والخنجر الذي انغرس في جسد علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت تدفعه فتوى أيقن صاحبها بأنها ستهبه مفتاح الجنة . وما اشتعلت فتنة طائفية أو سياسية عبر تاريخنا الإسلامي إلا عندما يكون هناك فوضى فتاوى . وتكمن خطورة الفتوى كونها تقطع الطريق على الطرف المقابل وتجعل الاجتهاد البشري الفردي حقيقة مطلقة وحاسمة غير قابلة للجدل ، وأي خروج عنها هو في مكان الردة او الزندقة أو المروق المستوجب للتصفية كقول الوالي خالد القسري ( أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحي بالجعد بن درهم) . وحتى عصرنا الحديث استمر استثمار الفتوى كأداة تصفية وقتل بعد أن باتت تنطلق الفتاوى وتتجول في فضائنا بسرعة وبحرية على الغالب غير مسؤولة أو ذات وعي شمولي بمتطلبات المرحلة ، وعاد خنجر الفتوى في يد شاب ساذج منفعل بتجييش شيخه وانطلق إلى الميدان لينغرس في رقبة صاحب نوبل نجيب محفوظ، وقتل المفكر المصري فرج فودة في أوائل التسعينيات على يد الجماعات الإرهابية في مصر، الجماعات الإرهابية نفسها التي أعملت حرابها وسكاكينها في صدور وظهور أهل الجزائر من مدنيين ومفكرين ومبدعين وعدد كبير من النخبة هناك ، وما برحت تستطيب لغة الدم في العراق وأفغانستان وسواهما من الدول الإسلامية . ونحن قد لانكون بعيدين عن هذا كله فبدلا من أن ننتمي للمجتمع الدولي وننغمر في المشروع التنموي والحضاري الذي جعل له شعارا مملكة الإنسانية ، أصبحنا نصدر إلى أقطار العالم ( الفتاوى والشباب الحركي ) إلى جانب النفط ، وكم من فتوى استباحت دماء عدد من المفكرين والكتاب ، وأخرى أهدرت دم فنان أو فنانة إلى جانب حصيلة لابأس بها من الفتاوى ذات الطابع المذهبي التي من الممكن أن تفتح أبواب الجحيم وتستثير حساسيات مذهبية في وقت ترقد فيه المنطقة على جبل من البارود آخر صيحات الفتاوى هي هدر دم والدعاء من فوق المنبر على رئيس دولة عربية بالموت ، بشكل منفعل وغير قادر على تلمس خطورة هذا الأمر على المستوى السياسي والدبلوماسي وطبيعة المعاهدات الدولية التي تربط المملكة مع تلك الدولة ، وهو الداعية نفسه الذي سبق أن استثمر منبره للدعاء على أحد الرموز الدينية الشيعية ، وحلم بأن يقوم بدور(سوبرمان) والقفز من الأردن حتى يتعلق فوق مآذن القدس . ومن هنا جاءت أهمية أعطاء الفتوى طابعها المؤسساتي المنظم ، لأن هذه الفوضى (التي يغلب عليها الانفعال وغياب الهدف والتخطيط الاستراتيجي المرحلي وطويل الأجل) في تقاذف القنابل الموقوتة فوق رؤوس شعوب تتداخل الفتوى في أدق تفاصيل حياتها وتحمل لها من الإجلال والتقدير الكم الوافر ، من شأنها أن تشوش على مشروع الدولة الحديثة ، وتُدخل المجتمعات في قطع فتن حالكة من العنف اللفظي والجسدي لايعلم إلا الله عواقبها الوخيمة.