«لا يُقتبس من شخص إلا في المسألة التي يُشكّ في مصداقيتها». هذه مقولة علمية متعارف عليها في البحوث والدراسات، وهي تثبت من جهة أخرى قيمة الشخص للآخرين ممن يأخذون تجربته ويعملون بها. وبهذا تظهر أهمية المشاركة الاجتماعية، فالحياة تكون مع الناس لا بالعزلة عنهم. وتنطبق المشاركة على كل شكل من أشكال الوجود الإنساني، فيرى الفيلسوف "جيلبرت رايل" (Gilbert Ryle) أن «الفلاسفة أمضوا وقتًا طويلاً في التساؤل: ماذا أعلم؟ وكيف؟، في حين وجب عليهم أن يتساءلوا: ماذا نعلم؟ وكيف؟». يعتدّ بعض الناس بأنفسهم، ويعتقدون أنهم وحدهم يمكن أن يُغيروا العالم، ولكنهم يتجاهلون أنه لولا اقتناع الآخرين بأفكارهم وثقتهم بهم ماكان لهم أن يفعلوا شيئًا. الفرد الناجح هو الذي يكسب المجموعة، ومن خلال جمهوره يستطيع أن يتحرك ويكتسب قيمة يعتدّ بها. ثمة عدد من الناس يحظون بالتقدير بسبب ما لهم من شعبية عند الناس. ومن هنا فإن رأي "رايل" السابق ينال تقديرًا كبيرًا بسبب أهميته الحقيقية، فعندما نعلم أن الحقائق أُنتجت بصورة جماعية (جمعية) معتمدة على بُنَى من المعرفة والفعل والفن، فإن معناها وتفسيرها يشتقان من هذه البنى. على أن الحقائق تُصنع أو تُلفّق ضمن بنية أو شبكة من الأفراد والأشياء، حيث يبني الفرد المنعزل أحلامًا وادّعاءات ومشاعر فقط، لا حقائق. إن أي حقيقة نجدها اليوم لم تكن حقيقة لولا الجماعة، فثمة أوهام وتخرّصات تحوّلت إلى حقائق لاتقبل النقاش عند بعض الجماعات بسبب الدعم الاجتماعي والتاريخي لها. ولأن الحقائق تُصنع بصورة جماعية، فإنها لا تختلف عن أشياء أخرى مثل أي عمل يحتاج إلى مجموعة من الناس مثل بناء المنشآت وتنفيذ المشروعات، يقول "جورجن هابرماس" (Jurgen Habermas):«ليس للعقلانية علاقة بملكية المعرفة قدر علاقتها بكيفية اكتساب الأفراد المتحدّثين أو الممثّلين للمعرفة واستخدامها». ذلك أن اكتساب المعرفة واستخدامها أمر نقوم به بصورة جماعية، باعتباره مسألة جمعية، أو فعلاً متناسقًا، وليس معتقدًا مشتركًا. لذلك، فقد أخذنا المعرفة كلها التي نعمل على أساسها من الآخرين، فحتى أفكارنا الخاصة إنما هي استدعاءات من أفكار جمعية. يقول "هيو بلير" (Hugh Blair) في كتابه: محاضرات في الخطابة والرسائل الجميلة (Lectures on Rhetoric and Belles Letters): «من أهم العطايا المميزة للبشرية هي القدرة على نقل أفكارهم، بعضهم إلى بعضهم الآخر. ومع تعطيل هذه القدرة يتم عزل العقل، ويتحوَّل -إلى حدٍّ ما- إلى مصدرٍ غير نافع. كما يُعدّ الكلام الوسيلة المهمّة التي يُصبح من خلالها المرء ذا فائدة للآخرين. لذلك، فإننا نُدين للاتصال عبر الأفكار ونقلها بواسطة الكلام في تطوير الفكر نفسه.إن التطويرات التي يمكن أن يحدثها فرد واحد من دون الآخرين في الوصول بطاقاته نحو الكمال قليلة. إن ما ندعوه بالعقل البشري ليس جهد فرد واحد أو قدرته، بل هو عقل كثير من الأفراد، ينشأ من الأفكار التي يتم تبادلها ونقلها نتيجة الحوار والكتابة». ومع أهمية توضيح هذه الحقائق لأنفسنا لابد من توضيح اهتماماتنا أيضًا عبر عمليات النقاش العام واتخاذ القرارات. ويقال بأنه لا يوجد شيء مؤكد أكثر من أن أصناف الناس كلهم في حيرة دائمة حول ماهية اهتماماتهم. حتى إننا إذا أردنا تعلّم هذه الأشياء القليلة، نجد أنفسنا - وبشكل تلقائي- نعتمد على كمية كبيرة من المعلومات حول الأشياء التي أخذناها من الآخرين، فنقبل الكثير منها بناء على الثقة، بل من الواجب علينا أن نفعل ذلك، لأننا ببساطة لن نملك الوقت والمال. وإذا ما أردنا أن نتأكد من كل ما يقوله لنا الآخرون، فلا يمكن أن نتحوّل إلى خبراء في كلّ شيء، ونحن نسعى للتعلم، ولا يمكن أن نكون خبراء بأيّ شيء من دون أن نضع الكثير من الثقة في خبراء آخرين. لقد بيّن علماء الاجتماع الذين يدرسون العلوم أن بُنية العلوم تتألف من: شبكة من العلماء المختلفين الموثوقين، ومن عدد الحقائق المتنوِّعة الموثوقة، ومن مجموعة من التجارب والنتائج والملاحظات. إن السؤال الأكثر أهميةً بالنسبة إلى العالِم النشيط هو:هل هو موضع ثقة كافية تجعل الآخرين يُصدِّقونه؟ هل يمكن أن أثق به أو بما يقول؟ هل سيزوِّدني بحقائق ثابتة؟. والواقع أن أي عالم هو محتاج إلى عالم آخر كي يُعزّز إنتاجه في الإنجازات الموثوقة. لقد حدَّد ملامح هذا التحليل "فريدريك نيتشه" (Friedrich Nietsche) بقوله: «أخلاقيّة المتعلم يمكن أن تحدث تطوّرًا سريعًا ومنتظمًا في العلوم - فقط - عندما لا يكون الفرد مُجبرًا على أن يُشكّك في اختبار كلّ معلومة أو التأكّد مما يُقدّمه الآخرون في مجالات لا يعرف الكثير عنها. والشرط الوحيد في ذلك، على أية حال، هو أن يكون لكلّ شخص في المجال الذي يعمل فيه منافسون لا يثقون به كثيرًا واعتادوا على مراقبته من قرب. ومن هذا التناقض بين أن يكون المرء غيرَ شكّاك كثيرًا، وأن يكون شكّاكًا كثيرًا، تنشأ وحدة مجتمع المتعلّمين». ومع أهمية الثقة، فثمة أهمية لاتقل عنها للشك. ودون الخوض في التفاصيل السيكيولوجية لكل صفة، فإن معطيات الحياة تفرض علينا مواقف حول الثقة في الأشخاص أحدها: أن لدي اختيارًا أساسيًا في التحقق من الشخص، لكني لا أقوم بذلك إذعانًا لذلك الشخص أو لقدرته، وثانيهما: أنه ليس لديّ مثل هذا الخيار بسبب ضيق الوقت وعدم توفّر المهارة، لذلك، فإني مجبر على الاعتماد على النتيجة التي وصل إليها ذلك الشخص. على أن تغيير المعتقد الفكري يغيّر بدوره من نثق بهم وما نثق به، يضاف إلى ذلك وجود ما يُسمّى بالقوة غير الشخصيّة التي تؤثر في مستوى الثقة بالشخص من عدمه، مثل السمعة والصدق والقبول العام، فنحن نميل - عادة - إلى الاستنجاد بالمشاعر في كثير من قراراتنا ثم نسبغ عليها طابعًا عقليًا نقتنع به.