رغم تيارات السوء والرداءة التي غرقت فيها السينما المصرية، إلا أن هذه السينما لم تخل يوماً من المبدعين الذين يحاولون عبر أعمالهم الجميلة المحافظة على سحر السينما ومكانتها كفن جميل يحمل هماً ويقدم رسالة.. داوود عبدالسيد كان أحد هؤلاء المبدعين ورائداً من رواد الواقعية في السينما المصرية.. صنع أعمالاً بائسة موحشة ك(سارق الفرح) وأخرى تبعث على الفأل والانتشاء مثل (كيت كات) كاد فيلمه (أرض الخوف) أن يصل إلى دائرة الترشيحات النهائية لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام ,2000. باختصار كان داوود عبدالسيد استثناءً جميلاً.. في مهرجان دبي السينمائي الأول التقينا به عقب انتهاء عرض فيلم الافتتاح (الرحلة الكبرى).. ومعه كان هذا الحوار: ٭ بداية حدثنا عن انطباعك عن هذا الفيلم (الرحلة الكبرى). - أنا معجب بالفيلم وأراه كمرثية للجيل الأول الذي هاجر ولايزال في داخله شعور بالحنين إلى الوطن والدين والقيم التي خلفها وراءه.. بينما هناك جيل آخر جديد - يمثله الابن - يمتلك رؤية مختلفة للحياة وقيما مختلفة.. إن الفيلم عبارة عن صراع بين هذين التيارين، والنهاية المأساوية للفيلم تعبر عن طغيان حس الرثاء للجيل القديم الذي يبدو أنه يسير إلى نهايته، بينما الجيل الجديد يعيش غربة وضيعة يستحق - هو كذلك - من أجلها الرثاء.. انه فيلم إنساني بسيط ورائع للغاية.. ٭ نجوم السينما المصرية شاهدوا الفيلم معنا قبل قليل.. ألا تعتقد ان اطلاعهم على أعمال جميلة كهذه سيؤثر على أعمالهم القادمة؟ - لا اعتقد ذلك.. هم ربما لم يدركوا منابع الجمال في الفيلم وحتى لو أدركوها فسينسونها حال عودتهم إلى مصر لأن المناخ هناك خانق وبليد جداً لا يساعد على الابداع، فهناك امتلك ناصية صناعة السينما ثلة من التجار الجشعين الذين لا يلقون بالاً للفن ولا للفكر والثقافة، فقط المادة هي هدفهم، وطالما أن الإسفاف والتهريج يحقق هدفهم، إذن فهم يصرون على انتاج أكبر كمية منه.. وهؤلاء وجدوا ضالتهم في بعض نجوم الساحة الآن والذين هم أكثر شغفاً بالمادة من المنتجين، حيث أصبح الممثل يهتم أكثر ما يهتم بنسبته من أرباح فيلمه.. ولا اعتبار للفن أبداً.. وإزاء مناخ مفلس كهذا لا أعتقد ان هناك ثمة استفادة من فيلم رائع كالذي شاهدوه الليلة.. ٭ لكن رغم وجود هذا المناخ إلا أن السينما المصرية تتحفنا كل سنة بفيلم رائع وجميل.. سهر الليالي وأسرار البنات كمثال. - للأسف أن ذلك كان محض صدفة، فليس الأمر مخططاً له، وليس مبنياً على أسس واضحة ومتينة، فالأصل لدينا لايزال هو السيئ، أما الجيد فيأتي خلسة وبصورة مفاجئة.. نعم هذه الأعمال جميلة لكن ما يدعو للأسى عدم وجود آلية للمحافظة على ديمومة ظهور أفلام شبيهة.. ٭ أنت ظهرت في وقت كانت السينما فيه سيئة للغاية.. أعني بها نهاية السبعينات.. والتي شهدت كذلك مولد مخرج مبدع آخر هو عاطف الطيب.. كيف ولدتما من رحم الرداءة التي كانت سائدة آنذاك؟ - ببساطة نحن جيل شكلته أزمة اجتماعية وسياسية عصفت بمصر، حيث عايشنا مرارة هزيمة 67، واكتمل وعينا نتيجة تلك الخيبة وبالتالي نشأ لدينا هم وطني واجتماعي وسياسي حاولنا أن نعكسه من خلال السينما.. وقد كثف من همنا وإصرارنا تلك السينما التجارية التافهة التي كانت رائجة في ذلك الوقت والتي كانت أسخف من أن تحتمل.. نحن حين جئنا فلم نكن سوى «رد» فعل طبيعي لتيار التفاهة هذا، حيث اقتربنا من الإنسان أكثر وبعثنا آماله وآلامه الحقيقية بكل بساطة ممكنة.. ٭ كانت بدايتك كمساعد مخرج في الأفلام الروائية.. لكنك تحولت فجأة إلى السينما التسجيلية.. كيف كان ذلك؟ - نعم هذا صحيح.. والسبب أنني سئمت ان أكون صغيراً، أن أعمل دون ان أحقق قناعاتي الخاصة، في ذلك الوقت لم تكن هناك فرصة لتحقيق الذات سوى عبر السينما التسجيلية، لذا ومن باب استغلال الفرص المتاحة اتجهت إليها، اضف إلى ذلك انها كانت الطريقة المناسبة للتجريب، فوقتها لم أكن واثقاً من قدرتي على صناعة شيء مكتمل، لذا كانت فرصة لأن أعزز من ثقتي بنفسي.. وإلى جانب ذلك كله كانت السينما التسجيلية السبيل الوحيد لأن انثر همومي وأفكاري عن الوطن وعن الإنسان.. فهي بخصائصها ومقوماتها الذاتية كانت توفر لي هذا الهامش الإنساني.. ٭ بذكر الإنسانية والبساطة.. أنت في «سارق الفرح» كنت بسيطاً لحد البؤس وفي جو شبيه بما ظهر في الفيلم الايطالي «الطريق».. هل كانت واقعية مصر امتداداً لواقعية ايطاليا؟ - بداية ليس هناك من شيء موجود الآن إلا وقد تأثر بما قبله بشكل من الأشكال، بالنسبة لي فأنا عاشق لواقعية ايطاليا لكن ليس إلى حد الامتثال التام لأفكارها ومبادئها، أنا متأثر بها لكن بطريقتي الخاصة.. وان كان هناك من تأثر فهو ب«فيسكونتي» وب«فيلليني» تحديداً في فيلمه العبقري «الحياة حلوة».. ونعم أنا معجب بهم لكن ليس إلى حد الفناء فيهم.. ٭ في العام 1999 قدمت فيلمين دفعة واحدة على غير عادتك.. البعض اتخذ من هذا ذريعة لمهاجمة فيلمك الثاني «مواطن ومخبر وحرامي» تحت شعار أن داوود عبدالسيد رضخ للمادة وللمنتجين وجاء بشعبان عبدالرحيم لاستغلال نجوميته آنذاك وضمان الحصول على أعلى ايراد ممكن؟ حين أقول أننا نعيش في جو بليد فلا أعني الجو السينمائي فحسب بل حتى جو النقد يعاني من البلادة، ذلك أن كثيراً من النقاد لم يحاولوا فهم سبب اختياري لشعبان وإصراري عليه دون غيره، فهم تعاملوا مع الأمر بسطحية تامة واستسلموا للاعتقاد السائد الذي يقول أن شعبان شخص جاهل فهو بالضرورة لن يشارك إلا في عمل تافه، وهذا ليس صحيحاً، أنا اخترت شعبان لغرض في نفسي ولكونه يتطابق مع الهدف الذي أبغيه من الفيلم، وفعلاً انساق شعبان وراء هدفي وأكد المعنى الذي أردت تقديمه.. للأسف النقاد تعاملوا مع العمل ببساطة ولم يحاولوا سبر غوره، رغم ان هذه هي مهمتهم ان يبحثوا في تفاصيل العمل الفني.. لكن ورغم كل شيء فإن هذا الفيلم هو أكثر أفلامي إثارة للجدل حيث امتلأت صفحات الجرائد بالحديث عنه.. بغض النظر عن جودة هذا الحديث أو سوئه.. ٭ في هذا الفيلم.. وفي أفلامك السابقة برزت عنايتك اللافتة بالموسيقى.. وهذا شيء غريب على السينمائيين العرب الذين عادة ما يتجاهلونها..؟! - نعم.. الموسيقى في نظري هي روح الفيلم، إذ لا أتصور اني قادر على ايصال بعض المشاعر دون الالتجاء لها، كما أنني أرى الموسيقى كأهم عامل لوصف البيئة التي تحيط بالشخصيات، وأحياناً أراها تعرف الشخصيات ذاتها، تماماً كما حصل في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» حيث مثلت الموسيقى نقطة تعريف أولى بالشخصيات الثلاث وبمستوى وعيها وثقافتها، فالمواطن مثلاً كان غارقاً في الثقافة والموسيقى المصاحبة له كانت عبارة عن سمفونيات عالمية تعبر عن مستواه المعرفي وهكذا بالنسبة لبقية الشخصيات.. الموسيقى بالنسبة لي هي الفيلم، وقد أكون محظوظاً كثيراً بعثوري على الموسيقار الذي ترجم ذات الإحساس الذي أريده، والذي شارك في كل أفلامي وإليه يعود تميز الموسيقى فيها.. أعني به الدكتور راجح داوود.. ٭ يذكر الاقتباس من موسيقى عالمية.. السينما العالمية الآن تمتاز باستفادتها من الإرث الفني على اختلاف مذاهبه، حيث تقتبس من الرواية والقصة والموسيقى والرسم.. أما العرب فهم بعيدون تماماً عن مثل هذه الاستفادة حيث يتجاهلون التراث الفني والأدبي تماماً.. لماذا؟ - لسبب بسيط هو «الجهل»، أنا اسألك: لو جئت برواية ما لنجيب محفوظ وأعطيتها لمنتج - كمن هم موجودون الآن - تُرى هل سيدرك عظمة الرواية أو يشعر بإحساس معين تجاهها؟ إن إرثنا الفني موجود وليس مخفياً عن أحد وما يمنع من الاقتراب منه هو الجهل ليس إلا.. وهذا جزء من خيبتنا، وهذه النقطة تحديداً طرحتها في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» ومن خلال شخصية شعبان ذاته. ٭ في هذا المهرجان أنت المكرم، وقبل سنتين تم الاحتفاء بك وتكريمك في تونس ضمن ليلة من ليالي البرنامج التلفزيوني «سابع الفنون».. السؤال: لم لم تكرم حتى الآن في مصر؟ - صحيح أن الوضع غير مفهوم، لكن هناك ما يبرره، فكما قلت أن المناخ في مصر غير صحي والأوضاع تماماً معكوسة، الأمر يدخل فيه نوع من الغيرة والحسد من البعض، خاصة وأن الوسط الفني في مصر تسيطر عليه الشللية بشكل واضح وصريح، أضف إلى ذلك أن المنتجين بأموالهم تمكنوا من السيطرة على من يجب تكريمه ممن لا يجب، بمعنى أنهم تدخلوا في تحديد أسماء معينة يتم تكريمها بشكل دائم، ولا يكرم هناك إلا من يعملون معهم في أفلامهم ويوافقونهم على الاتجاه الرديء الذي انتهجوه، وذلك من أجل ايهام الجمهور بأن ما ينتجونه هو الجيد لذلك استحق التكريم.. الوضع محبط لكني غير مهتم بمسألة التكريم هذه، فأبلغ همي هو أن يأتيني شخص عادي ليقول لي أن أحد أفلامي قد أعجبه.. هذا هو تكريمي الحقيقي.. ٭ الآن وبعد هذا المشوار الطويل.. ما هي رسالة داوود عبدالسيد؟ ما الذي يحاول أن يقوله؟ - ما أحاول التأكيد عليه دائماً في أفلامي أننا متخلفون مهما أوهمنا أنفسنا بالعكس، ان ملامح تخلفنا واضحة وجلية وهي تبدو على سطح مجتمعاتنا كالندبات على الوجوه.. ومن خلال تأكيد حقيقة كهذه فأنا أحاول - كذلك - معرفة الكيفية التي نخلق بها إنسان رهيف الإحساس والشعور بدل هذا الجاهل الوضيع المتوحش الذي نراه الآن..