لابد للحكاء من مدينة يخاتلها ويعابثها ويستل من شجرها خيوط الحكاية. هل تتشابه المدن ..ام أنها جميعها لا تخلو من شبهة اقتراف القصص والسباحين والحكايات، التي تعيد صياغة الواقع وفق قانونها الخاص ..وتعيد تشكيل العلاقات في بنائها الداخلي وفق شرطها الوجودي. عندما يعيد الراوي استعادة المدينة في روايته فإنه يأخذها إلى الحافة إلى الطرف القلق الذي يسبق المنحدر، عندها تنظر المدينة إلى الهاوية ويرتعد قلبها وترتد ناقمة غضبى على الذي اقلق تواترها وهدوءها ومواقعها القديمة، المدينة المنجم.. أو المدينة الكنز.. أو مدينة متوارية خلف غموض كثبانها، لا تمنح مفاتيحها إلا للذين كابدوا صباباتها، واكتووا بدل صدها. الرياض. المدينة التي تعجز عن أن تكون ودودة مع الغرباء، وتعجز أن تطور مهاراتها الاجتماعية مع الآخر، والرياض.. هي النجدية الخجول التي لن تزيل برقعها إلا بحضرة من ألفت وأمنت. لكن عندما يغادر الجميع، ستشهق وتفز من صمتها.. وتمطر حكايات وشهبا وسواقي وعسل عريق مختبيء في جرار العرب العاربة. ولكن هل هناك وجه مغيب ثالث للرياض، وجه الظلمة والسطوة، الوجه المتواري خلف سمتها ووقارها، وجه الآلهة (كالا) التي في وقت من الأوقات تلتهم ابنائها وبناتها عندما يعلنون العصيان. جاذبية المركز للكويكبات المارقة مدينة الرياض جزء من النص الرسمي المركزي ومشهد تحتله ثقافة أحادية وماسواها ليس سوى تفريعات عنها وتبصير بها فقط، إنها العاصمة الهيبة الركيزة والمحور ولكن لكل محور هناك أطراف، ولكل نص رسمي أو متن هناك هوامش، فالنص الرسمي هو اجترار نخبوي معزول عن محيطه، لذا يراوغه ويخاتله النص الهامشي ب (مكر النص). وأن كان الفيلسوف الأماني هيجل 1770-1813 فسر مصطلح" مكر التاريخ" (على أن للتاريخ مستويين. المستوى الأول، ظاهري سطحي. والثاني، باطني عميق) فما أعنيه بمكر النص هو ثنائية الظاهر / الباطن –القديم /المحدث- الجبر / الاختيار . أو ازدواجية النص الأصلي والنص الموازي. ومصطلح النّصّ الموازي ظهر عندما توجَّه الاهتمامُ النّقدي الحديث إلى الكشف عن الجزئيّات والتفاصيلِ المحيطة بالنّصّ، فدخل هذا النّوع من البحثِ في دائرة الضّوء ولم تَعُد الهوامش ولا ما كان يُعدّ ثانويا في النّصّ الأدبيّ كما كان يُنظرُ إليها بل أصبحت تُسْتَضافُ إلى مركز الاهتمام. أو ما أسماه الناقد الفرنسي جيرار جنيت بالعتبات، (عبارة عن مجموعة من العتبات المحيطة داخلياً وخارجياً تساهم في إضاءة النص وتوضيحه ... وعلى الرغم من موقعها الهامشي فإنها تقوم بدور كبير في مقاربة النص ووصفه سواء من الداخل أم من الخارج) , لقد انقلب الهامشيُّ مركزيّاً، كلّ ذلك لأنّ النّصّ المعاصر ارتبط بعصره بوشائج ثقافيّة ومعرفية جديدة، بِما في ذلك الوشائجُ التي أحدثتْها النّهضة التكنولوجية والإعلاميّة ... يقول الناقد جولدمان (أن المنهج النقدي هو الذي يحلل النص الأدبي بوصفه بنية إبداعية تخبيء تحتها بنية اجتماعية) وإذا كانت مدينة الرياض هي النص الرسمي والمركزي، ونعني بالمركزيمايصفه الناقد إبراهيم الرياحي بقوله هو أدب المؤسسة يكتبه”كتبة” و “كتاب” من صنع المؤسسة السياسية أو الدينية النافذة في ذلك العصر للترويج والدعاية أو للتسويغ والشرعية، فهو أدب تابع للمؤسسة، لكن في مقابل هذا الأدب يظهر الأدب الهامشي وهو الأدب الذي يقوم على الاحتجاج ضد وضعية الإنسان والعالم وضدّ أداء المؤسسة وهو أدب يرصد حياة المنسيين والذين يقطنون الأطراف وعلى حافة الحياة. وأدب الأطراف هو أحد ملامح مدرسة مابعد الحداثة التي تنحو باتجاه الاعتداد باليومي والمعاش والمألوف كخامة أزلية تمدّ الإبداع بموضوعات لاتنفد، والتعامل مع النص على أنه سلعة متميزة عالية القيمة تتأثر بالعرض والطلب من أجل العودة به إلى الثقافة الجماهيرية Mass Culture)- المفارقة هنا أننا قفزنا إلى مابعد الحداثة دون ان نمر بالحداثة الفعلية التي تطال جميع أشكال الحياة حولنا. يقول د. الغذامي في كتابه النقد الثقافي (الأغنية الشبابية والنكتة والإشاعة واللغة الإعلامية، والدراما التلفزيونية تؤثر أكثر من قصيدة لأدونيس مثلا ولكن النقد سخر جهده لقصيدة أدونيس غافلا عن الخطابات الفاعلة وفق شرط مؤسساتي يصنعه الشاعر ويسوقه النقد، وبالتالي هذا الالتزام المبدئي حرم النقد من القدرة على معرفة عيوب الخطاب، ومايسميها د. الغذامي بألاعيب المؤسسة الثقافية) إذا مفهوم الأدب لم يعد مقصورا وحكرا على الجليل والسامي والرسمي، وأن خارطة نفوذه قد تراحبت واغتنت، وانفتحت على الضفاف والحواف. ميثاق تخييلي يقول الروائي أمبرتو أيكو (عندما نلج عالم السرد و يطلب منا ان نوقع على ميثاق تخييلي مع المؤلف للتخلص من حالة الارتياب) أي أننا بهذه الحالة نفسح للمؤلف حيزا للصهيل والركض ومعابثة التابو، ويقول هوبر (لقد أصبح الفن والأدب بفضل فرويد ومن جاء بعده، هما الطريق الملكي إلى الأعماق حيث قد يمكن كشف المخبوء والمكبوت أحيانا) لكنه الأمر الذي رفضته وأنكرته مدينة الرياض ولم تغفره للبنات اللواتي اختلسن اسمها ورشقنه حول نص هامشي موازٍ يحاول أن ينال من وقار نصها الرسمي عبر رواية (بنات الرياض). ولكن ما الخصائص الثقافية والفنية التي جعلت من رواية (بنات الرياض) نصا هامشيا:- هل لأنها رواية، والرواية مابرحت نبتا هجينا دعي النسب في الثقافة العربية، واسماه العقاد بالأدب المرذول (قنطار خرنوب ودرهم حلاوة) كما آشار بذلك لنجيب محفوظ في مطالع تجربته. هل لأن كاتبة الرواية أنثى وأدب المرأة ظل عبر التاريخ من أدب الهامش والمؤقت وقال الشاعر الفرزدق يصف المرأة التي تنظم الشعر (إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتذبح ) أو ماقاله المنفلوطي ياقوم لم تخلق بنات الورى.. للدرس والطرس وقال وقيل لنا علوم ولها غيرها.. فعلموها كيف نشر الغسيل. (والاستشهادان استحضرتهما من كتاب د. عبدالله الوشمي فتنة القول بتعليم البنات). الأمر الآخر الذي يكرس هامشية النص وهو في النهاية أن النص كتب عبرالتكنولوجيا الحديثة الإنترنت هو الراوي هنا، وهو الأداة التي مازالت النخبة الأدبية تنظر له بنوع من الاستعلاء والشك والريبة. اخيرا لعل من أسباب إزاحة ونفي النص الرسمي لهذه الرواية باتجاه الأطراف أن كاتبته صبية فتية لم تنل وتبلغ مبلغ الحكمة كأحد اشتراطات النص الرسمي. ولكن لعل ذلك العنفوان الشبابي والصبا المحتدم الذي لايبالي بالأبعاد ولايقدر المسافات عندما يقفز، وهو الذي فتح خزانة الشبح أو غرفة باب الغول كما في الأسطورة العربية ويقول غوته (طالما بقي الشبح محبوسا في الخزانة فسنظل خائفين منه). ...................... بين افتتاح أول مدرسة رسمية للبنات في الرياض 1960(أي أول قضمة من شجرة المعرفة) والعقاب والنفي والتهميش الذي طال بنات الرياض هناك بضعة أجيال . ويذكر د. سحمي الهاجري في بحثه عن -السمات السبع للروائيات الجدد- سمة الوظائفية أي تكون هناك وظيفة ثقافية للرواية على حساب الوظيفة الفنية، وهو مايفسره د. الهاجري بأنه على سبيل الاحتجاج والمشاغبة، أو لضرب المجتمع الذي يدعي الطهرانية بالشيطنة) وهي الشيطنة أو الشغب الذي جعل كاتبة نص بنات الرياض تقول في مقدمة كتابها (سأكتب عن صديقاتي، عن السجن الذي يمتص أعمار السجينات، عن الزمن الذي أكلته أعمدة المحلات، عن الأبواب التي لا تفتح الرغبات، عن الزنزانة الكبرى، وعن جدرانها السوداء.. سأكتب عن الأغلال دامية، بأقدام الجميلات.. عن الهذيان، والغثيان.. عن ليل الصراعات، وعن الأشواق تدفن في المخدات.. عن الدوران.. عن موت الهنيهات) ولكن هذه الشيطنة أو الشغب تصدى له المركز بأدوات قاسية، الرياض الرسمية أو(كالا) ستسعى إلى مطاردة النص الآبق، ومن ثم إلى التهامة عقابا للمروق والخروج. فبادرت المؤسسة الدينية كونها المعنية بالضوابط والمعايير، بحملة انكار كبرى عبر عدد من المنابر حتى أن أحدهم كتب (نحن نقول نسأل الله العافية لصاحبة الرواية، حيث لايقل خطرها عن خطر حادثة الإفك التي كلفت أطهر نفس على وجه البشرية محمداً صلى الله عليه وسلم، وزوجته الحبيبة، ووالدها الصديق، آلاماً لاتطاق) ثما مالبث أن ظهرت أشكال متفاوتة للردع والضبط عبر نصوص روائية مضادة تستعمل ترياقا مستخرجا من نفس السم منها على سبيل المثال لا الحصر الرد على بنات الرياض "المرآة المنعكسة" بنات البدو وشباب الرياض . أيضا من سبل النفي شكك البعض تماما بكاتبة الرواية فقد صرح أحد الأدباء بأن مؤلفة (بنات الرياض) لم تكتب روايتها، ودلل على ذلك أنها لن تكتبها إلا إن كانت تملك نفس المرأة العجوز، ملمحاً بأن العذوبة لا يمكن أن تصل إلى نَفَس كالذي في روايتها، بينما أنتشرت آشاعة أخرى تشير إلى أن كاتبها كاتبها هو أديبنا الكبير غازي القصيبي .شفاه الله . على مستوى آخر اتهمت المترجمة مارلين بوث ودار النشر بنغوين بالمؤامرة التغريبية، لأنهم ترجموا نص فضائحي ويفتقد الصنعة الأدبية كنص بنات الرياض . وأخيرا كان الحصار الأكبر من قبل طبقة الانتلجانسيا والنخبة الأدبية التي وصفت الرواية بالهشاشة والضعف البنائي واللغوي والسطحية، بل أن بعض النقاد رفض أن يمنحها مسمى رواية. فهل هذا جميعه كان أسيد العصارات الهضمية التي أطلقت على النص الموازي الهامشي لإعادته إلى العصمة، وتذويب نتوءاته وملامح اختلافه؟ النص الذي تحدى الرياض في اسمها وفي سمتها ووقارها فالتهمته، أكلت الرياض بناتها. ولكن لا أحد يدرى إلى الآن أن كان أولئك الشيطانات الهامشيات قد أشرعن بوابات كثيرة فتسلل منها قبيلة الغجر التي أشعلت في المكان مهرجان الرواية. *ورقة قدمت في النادي الأدبي بالرياض ضمن أسبوع الرياض الثقافي