وأنا في باريس ، لم أكن أعلم أن صاحبي الذي كان يقود الأفراح في المنطقة ستقوده الصحوة إلى كهوف الإرهاب . كان سعيد شاعرا ومُغنِّيا ينتزع قلوبنا من غفواتها المصطنعة التي اجتاحتنا على غرة , نسينا على إثرها أصلنا وفصلنا من الشعر والطرب والحياة . قبل هذا الاجتياح ، كنا قصائد وحقولا وحَبا وغناء .لم يكن يعنينا من الحياة إلا الفرح ، إلا العطر والجمال . خلع سعيد قصائده وخطاه الراقصة وضحكاته واختار مكانا قصيا في تهامة , واختار قطيعا من الأغنام بدلاً من أهله وقريته والحياة . ظللت أتابع أخباره , قالوا إنه اختفى , وانطلقت في القرية كل الإشاعات عن اختفاء سعيد . وكم كنت حزينا , قيل إنه على قطيعة مطلقة مع ماضيه وحاضرنا , وانه اختار العمل للآخرة . لم يعترض أحد على هذا الخيار , لأن القرية عرفت كثيرا سبقوه في هذا الطريق , لكنهم ظلوا معنا , وأحيانا يشاركوننا أفراحنا بصورة تدهشنا وكأن العمل للآخرة يبعث فيهم أقصى حالات الفرح والحب , أما سعيد ومعه بعض الشباب فقد حرموا علينا وعليهم الحياة , وأصبحنا بالنسبة لهم قوما ضالين ، وبعضهم لم يتردد في تسميتنا الفئة الضالة لأننا نغني ونرقص كما علمتنا الحقول . ذهب سعيد بعيداً مع " إخوته " . اقتادوه إلى اليمن حيث معاقلهم الأخيرة, شكوا في أمره , لأنه كان يغنِّي في نومه , أيقظوه مرة وهو يغني وقطعوا شفتيه . رحلوا وتركوه في العراء . أنقذه بعض المارة , قرر أن يعود ، فتحت له البلاد ذراعيها خصوصا حين رآه المسؤولون بلا شفتين. رأيته وقرأت عليه هذه الفتوى التي تبيح إرضاع الأجنبي . بدا سعيد سعيداً بهذه الفتوى ، أبديت له استغرابي من سعادته . كتب لي " لو طُبِّقت هذه الفتوى فلن أكون الوحيد بلا شفتين "، تركته متمنياً له إقامة طيبة بين الفئة التي لم تكن ضالة أبداً...