تخف هذه الأيام من كل عام أعداد المتنزهين الذين يذهبون في رحلات خلوية أو رحلات صيد طاف توقيتها خاصة في براري مناطق المملكة الوسطى والشرقية والشمالية، فيقل مرور السيارات في الأماكن النائية عن المدن والتجمعات السكانية، بل يندر عبورها كلما بعدنا عن شبكات الطرق المسفلتة، حتى أصحاب الماشية يعودون من المراعي ليقضون قرب مصادر المياه والأعلاف. لكن هناك فئة ممن يطلق عليهم البلدانيون الذين يهتمون بالأماكن الأثرية والمواقع الجغرافية ذات الدلالات التاريخية، هؤلاء لا يتوقفون عن الترحال البري في كل المواسم على طريقتهم باحثين ومستكشفين ومنقبين وأحيانا غافلين عن جانب أمني خصوصاً إذا كان المرتحل لوحده، مثل هذا المسترخي في الصورة في قيلولة يرى كبار السن ومن يلبسون ثياب الحكمة أنها ضرب من المجازفة في غير موسمها، استرخاء قد يصحب بتراخ أو غفلة تكون مدعاة لمن في قلبه مرض أن يعتدي طمعاً في مال أو متاع أو غيره. أبو فواز واحد من المتعلقين بالترحال البري يروي قصة طريفة حدثت في الليلة الأخيرة لمّا كان عائدا مع اثنين من أصحابة إلى مدينة الرياض بعد رحلة برية استغرقت خمسة أيام، وقد أنهكهم الجوع فتوقفوا قبل مائة كيلومتر من الرياض في منطقة برّيّة تبعد نحو 10 كم عن أقرب طريق مسفلت. يقول أبو فواز: بعد توقفنا بساعة أقبلت علينا سيارة يبدو أن صاحبها جذبته شعلة النار التي نعد عليها وجبة العشاء، وقبل أن تصلنا السيارة دارت حولنا ثم اقتربت وتوقفت بجانبنا وتبين أنها سيارة (جيب شاص). ترجل صاحبها قبل أن يلقي السلام دون أن ينتظر دعوتنا له بكلمة (تفضل). ولكننا لم نلق بالاً، ولم ير أبو عبدالله - وهو أميرنا في الرحلة - في الأمر ريبة، وتوقعنا أن هذا واحد من (الطفيليين) الذين تجذبهم رائحة الطبخ. وعادة يدعي الواحد من هؤلاء أنه ضيّع ناقة فيبدأ بسرد أوصافها الدقيقة بتفصيل ممل، ولا يتوقف عن الحديث إلا بعد أن يلعق يده من الطعام الذي أعددناه، ثم يذهب بعد ملء بطنه لا ينتظر منا جواباً عن الناقة التي ضيعها. أما هذا الرجل فعلى غير المعتاد، جلس وظل صامتاً لا يصدر عن شفتيه إلا صوت رشف فناجيل القهوة التي نقدمها له الواحد تلو الآخر. بدأت بكسر حاجز الصمت فسألته عن (موديل سيارته) تمهيدا لفتح حوار معه لعلنا نعرف أي شيء عنه خصوصاً أنه جلس بلا دعوة، فأجاب دون أن يرفع عينيه ويديه عن طبق التمر إجابة مختصرة: (موديل راح)، ثم سألته هل تركت أصحابا أو مرافقين تعطلت سيارتهم ويحتاجون إلى مساعدة، فلم يجب واكتفى بمد فنجال القهوة. وانتظرنا لعله يبدأ بالسؤال عن أي شيء فلم يسأل. ثم قلت لصاحبنا عادل، وهو شاب ملتحي وأصغرنا سناً، حدّثنا يا شيخ، فبدأ أولا بتوجيه أسئلة لهذا الرجل، عن الطقس والمطر فلم يندمج ضيفنا الثقيل في الحديث، ومن هنا بدأت أحداث مشهد لم نعد له إعدادا جماعياً رغم أننا أجدنا تنفيذه كما لو أننا تدربنا مراراً على حبكه وتمثيله. فقد همس لي عادل قائلا: أريدك أن تتظاهر أمامنا بأي حركات أو أصوات لادعاء أن بك مس من الجن، وامتثلت للأمر ثم نهضت وأنا متردد لا أدري كيف أبدأ ومددت يدي إلى إبريق يغلي على النار وسحبته لأضعه على حافتها فانسكب بعض الماء على النار بدون قصد مني، فقال عادل وهو يمثل دور الخائف: باسم الله الرحمن الرحيم، ابتعد عن النار يا أبا فواز الله يحفظك من شرور الإنس والجن. ففهمت ماذا يقصد. استمر عادل يتمتم بعبارات غير مفهومة وينفث باتجاهي في الوقت الذي أمسك أبو عبدالله بيدي طالبا مني الهدوء. وزاد من دراما الموقف أن عادل صرخ موجها كلامه إلى أبي عبدالله: ابعد السكاكين عن أبي فواز، حينها صببت الزيت على النار بالتمثيل أنني أترنح وأرتجف وأهذي بكلام نصفه تهديد بالانفلات على المتحلقين حول النار. وهنا انطلق الثقيل مذعوراً إلى سيارته وهو يردد: (امسكوا الجني.. امسكوا السكني). وبالكاد استطاع إدارة محرك السيارة وولى هارباً. ثم تحول الموقف إلى ضحك وتمثيل مشهد (الضيف) الثقيل وهو يهرب إلى السيارة. يضيف أبو فواز: شعرت بأننا أخطأنا في تصرفنا مع الرجل وقلت لعادل: ما كان يليق التمثيل على الرجل ونحن نعرف أن أكثر ما يثير ذعر أمثاله الحديث عن الجن، ليتنا تعاملنا معه كعابر طريق جلف من أولئك الذين لا يحسنون الاندماج مع أبناء المدن، ثم ماذا لو كان مريضاً في القلب أو ارتفاع ضغط الدم، ألا ترى أن المسكين نسي حذاءه وهرب حافياً. فقال عادل: إن تصرف الرجل وسلوكه مريب، لقد ولّت عصور التمسك بتقليد استضافة أي شخص دون أن تعرف من يكون، ولا تستطيع في هذا الزمن التمييز بين الضيف العابر واللص الغادر، ونحن نسمع أحيانا أخبارا عن أشخاص غدر بهم في قلب الصحراء متلصصون يلبسون ثياب الضيف، وما يدرينا أن هذا المريب في سلوكه واحد من (إياهم). وعلى أي حال فالأفضل لنا (أن يروح حافي ولا يقعد حايف)! انتهى حديث أبي فواز، ولم أعلق سوى الإضافة هنا، أن الحيّافة ومفردها حايف أو الحنشل ومفردها حنشولي، مفهوم انقرض تداوله، وهؤلاء قديما، قوم صعاليك يتشكلون في الصحراء من مجموعات، كل واحدة تتراوح من ثلاثة إلى خمسة أشخاص، أو شخص بمفرده، يختفون في النهار ويتحركون في الليل للتلصص وسرقة الإبل والخيل والبنادق في غفلة من أصحابها، أو التعرض للقوافل التي تقطع الطرق الصحراوية للظفر بما خف وزنه وغلا ثمنه. وترد في بعض المصادر الشعبية قصص قديمة عن (الحيّافة) تسبغ عليهم هالة من صفات القوة والسرعة والذكاء والفطنة، وأن الأمر كان يصل بهم إلى بيع الأشياء الثمينة التي يملكها الآخرون من عابري الطرق أو قوافل الحجاج وقبض الثمن قبل سرقتها للثقة بقدرتهم على أنهم سيدركونها لا محالة.