ربما يودّ أحدكم إذا ما أبصرها أن يكون «حاشياً»، وتُستبدل النوق حينذاك بالأمهات، ومن لم تكن له أمٌّ من «النوق»، ومن لم يكن له من «الأباعر» أبٌ، فما له من خفين يمكن أن ينتعلهما في مفازات غيوب المستقبل القلق، وإذا أردتَ أن تعرف من أنت؛ فانظر إلى «الإبل» كيف خلقت، أما شأن السماء فهو ليس لك. هل بدوت قبالتكم بائساً أعيش فراغاً «إنسانياً»؟!؛ حيث «تشعبطت» سور حرم «سنامها»، وحشرت شيئاً من عشبها في فتوق فراغ دستور «إنسانيتي»، أنا هو وليس من أحد سواي من أورث الأرض تحت أخفافها ملح الخطايا، ودلكت فروة رأسي ببقايا من بولها الذي لا شية فيه؛ ابتغاء أن أتعافى من صلع الاستخذاء، في حين أن «ألبانها» محرمة علينا أربعين سنة، ورحت في جغرافية التيه ألتقط من مبارك «روثها» سبع سنابل ليست خُضراً، تنبت من دهن مزن الربيع، الذي لا يلبث هو الآخر أن يعقبه شتاء قارص يأتي بعنفوان قسوته ليدثرني، تالياً أردية من جليد؛ فتتزمل أوردتي صقعياً. إبانها أتجمد بوصفي كائناً من ثلج، وما من أحد يمكنه أن يحدق بي إذ ذاك إلا وسيلحظ ضرورة أني قد استحلت قطبي الملامح، بيد أني دون ذاكرة غير ذاكرة الحمى التي تجردني اسمي، بينما ينبت لي قرنان من جيوش الأفول أناطح بهما السراب، وأتلو -من ثم- سورة الفراعنة: ناقتي يا ناقتي لا رباع ولا سديس وصليني لابتي من وراء هاك الطعوس حائلاً رابع سنه من خيار العيس عيس خفها لادرهمت كنه بالنار محسوس في دجى خالٍ خلا لا حسيس ولا نسيس تنوخذ من شدة البرد طقطقة الظروس في عيوني يكفخ الطير ويطيح الفريس وانتهض جساس من دون خالته البسوس وفي خفوقي فرخ جنيةٍ يضرس ضريس يوم أوردها هجوس وأصدرها هجوس وادعيتُ وصلاً ب»الجنّ» لعلي أخيف «الرخوم» ممن هم حولي، وأظفر من ثم بشيء من فتات «تبن النفط» ركازاً أسدّ به الرمق، وهو مما أفاءت به «الناقة» عليّ خمساً من غنيمة الرأفة؛ غير أنها خيبتي التي لم تغادرني لا في صغير ولا في كبير من أمري، ولقد أحاطت بي فكنت من الأخسرين آمالاً؛ إذ نكصتُ على عقبي حافياً في الأثناء التي عرف فيها المليون طريقه نحو «قطر»، ومن يشرب من «كأس العالم» ماءً قراحاً لاريب أن سيكون الظفر حليفاً له (جزاءً وفاقاً). تيبست شفتاي؛ فالشرب في هذا اليوم من نصيب الناقة التي آلت على نفسها ألا تترك للغد من شيء؛ ذلك أنه ما من أحد يعنيها في شيء سوى نفسها، أما من يكن حاله من مثل حالي فلهم شراب من حميم، لا جرم – إذاً- أنّ تعاستي أتت من أمشاج جينية تخلقت فيها ابتلاء. ألم أقل لكم من ذي قبل «جريرتي هي ذاتها جرمكم المشهود»؛ إذ ندبّ على قدمين ثنتين ولسنا نمشي على أربع؛ ذلك أنا قد خلقنا «أناسي» وليس فينا من كان «حاشياً»! له الشرب المعلوم في كل أيام السنة، فأي ظمأ يمكن أن يتجاسر على قتل «الحاشي»؟ وحاشاه أن يتضور جوعاً وهو في كنف أمه «الناقة» الرءوم، فكيف له أن يبرح معطنها؟ واستفتوا إن شئتم «القرضاوي» وقد لبث فيهم عمراً، استفتوه؛ فلهو الأجدر في أن يفقه المعاني الثاوية في حديث العرنيين وما صنعوه بالراعي وإبل الصدقة.أرى في طرف أرض مالحة سبخة امرأةً ألقت بنفسها في الوحل، وها هي ترقب شارة تلك النجوم تومض عن بعد، وترسم في زرقة الكون الضيق شخبطات أحلامها، وحادي الركب لم يحفل بتوسلها؛ فطفقت تندب حظها؛ إذ لم تكن «ناقة»، وأرهقها الركض الممض وجعاً، تلهث من شدة الثرى خلف القافلة، غير أنها لم تصل، ولن تصل بحال؛ ذلك أن المخاض قد فاجأها إلى أوان من الخزف المكسور تجمع فيه طيناً -حمئاً مسنوناً- لا شيء ينأى عن تضاريس يديها اليابستين، مهمومة في شأن انتظار لحظات قيامة ساعة جنينها أن تدق، تحاملت على وجع مخاضها، من غير قابلة وضعته بعدُ بشراً سوياً، والملأ أعلم بما وضعت، وليس البشر كالناقة. دست بشرها السوي على هون في كومة الطين .. أنضجته للموت .. سال موت الجنين في دم أمه ثم ماتت دون أن يبكيهما أحد .. وحلّت اللعنة على آلة الموت المصنوعة من نفط .. وغابت حكايتها خلف شفاه مزقها الأنين، كل ذلك كان ليلاً. وفي الصباح المرّ، امتدّ صمت آخر بمعنى جديد ورائحة أخرى تشبه رائحة الكبريت. والبصاق يملأ أرصفة الحياة بازدراء لميلاد -حياة- نهايتها الموت بهذه الطريقة السمجة. استرخيت منسدحاً أتوسد الرمل، وألتحف شيئاً من ورق الأثل .. والليل سابل والنجوم تترصد شيطاناً؛ إذ تتهيأ بارتداء خوذة الشهاب الثاقب، والقمر منكسر كجزء ثانٍ من حجر قد انفلق؛ لا شيء هاهنا غير الغسق، ومنتهى إرادات أحلام من حولي لا تعدو دوحة «شبك البعارين»، اشرأبّت الأعناق .. لفحت وجوههم سموم رياح غربية .. يد واحدة قبضت في هياج وسطوة على الجمر، فاستحالت ناراً كاسية، وبتنا كلنا كهشيم المحتضر. الناقة وحدها القادرة على أن تدوس بخفيها عقارب الساعات ودقائقها، لا تثريب عليها؛ فالزمن زمنها و»الأماكن كلها مشتاقة لها».. إن وعينا في «ثقافة النوق» شقي يتحرك في فضاء الفاجعة، وينغمس مهووساً في وهم الهوية، و»كرائم أموالنا» هي «الناقة»؛ إذ انقلبت فيه من أنموذج أثير (في النصوص) إلى صورة مشوهة طالها الانحراف، وباتت وسيطاً رمزياً يعبر عن التشويه، ويبرر أفكاراً زائفة بما يمنحها من بعدُ بعداً احتفالياً – كونياً – حتى! أيتها «الناقة»، لسنا أشقياء، لن نجترح شيئاً من الموبقات؛ لأننا نخاف عقباها، قلوبنا كالعصافير تغدو خماصاً وتروح منتوفة دون ريش، وحسبنا أن قد حفظنا في الكتاتيب أن لباس التقوى ذلك خير. ومهما يكن من أمر، فإن ناقة صالح كانت رمزاً للرسالة، وظلت عنواناً للتوحيد، في مقابل وثنية انتهت بأصحابها إلى أن أصبحوا في ديارهم جاثمين.