أشرت يوم أمس الأول إلى يابان ميجي. ربما يكون بعض القراء لا يعرف ما الذي أقصده. ميجي هو العصر الذي نهضت فيه اليابان وأصبحت من الدول الكبرى. كانت اليابان قبل هذا في عزلة. عانت بسبب هذه العزلة من تهديد القوى الغربية الطامعة. لم يهب مراجيج ومعتوهو اليابان( المهووسون بالعزلة) ليقودوا البلاد إلى حتفها. فرضت عليهم القوى العاقلة الصمت . عرفوا أن الفرق بينهم وبين المستعمر القادم يكمن في التقدم. أول أمر قاموا به أن (لجموا الشعارات السياسية والدينية والقومية التي ترتفع إلى السماء دون أن يكون لها دعائم على الأرض). كان هذا مع نهاية القرن التاسع عشر. هذا التحول يجهله حتى المثقفون العرب. هناك مسلّمة غريبة. يرددها كثير من الأخوة الكتاب في الصحف. تقول هذه المسلّمة إن عظمة اليابان ثمرة الاستعمار الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية. سمعت هذه المسلّمة بعد الغزو الأمريكي للعراق. قرأت كتّابا يقولون بشيء من الجذل : هل ستصبح العراق مثل اليابان ، هل سيحول الأمريكان العراق إلى يابان الشرق الأوسط ؟ في ذهنهم أن اليابان الحديثة بدأ تاريخها الحديث على يد ماك أرثر القائد الأمريكي الذي استسلمت له الجيوش اليابانية. من حسن الحظ أن هذه السذاجة بقيت في حدود أنصاف المثقفين من كتاب الجرائد ولم تنتقل إلى عامة الناس. يبدو أن هذا الإيمان متعدّ. كل ما يحصل من تقدم في الشرق يعاد تفسيره بواسطة هذه النظرية. كوريا على سبيل المثال قفزت في السنوات الثلاثين الماضية قفزة حضارية نسبها أخواننا على الفور إلى الوجود الأمريكي. هذه النظرية جزء من معتقدات كثيرة خاطئة يتشكل منها وعينا الحضاري. غياب المعرفة الحقيقية يولد معرفة متخيلة زائفة. نهضات اليابان وكوريا وماليزيا والصين تجارب عظيمة. قراءتها تساعدنا على الأقل في التخلص من النظرة العنصرية للتقدم. تفك الارتباط بين الرجل الأشقر والحضارة(في لاشعورنا). لماذا تقدمت أوروبا ولماذا لحقت بها دول الشرق بينما بقيت الشعوب الإسلامية وعلى رأسها الشعوب العربية على طمام المرحوم العثماني؟ قرأت كتبا في الموضوع. تبقى الكتب وجهة نظر كتّابها. التاريخ أهم من كتب الدراسات. نقرأ مسردا تاريخيا لتاريخ اليابان في القرنين أو الثلاثة الماضية. كيف استطاعت اليابان في القرن التاسع عشر أن تعتق نفسها من ماضيها وتصبح واحدة من أعظم الدول في العالم ، نقرأ تاريخ كوريا، كيف استطاع الكوريون أن ينهضوا ببلادهم في أقل من ثلاثين سنة؟ نفس الشيء مع ماليزيا. قياسا على تجارب الشعوب نختبر الشعارات والنظريات الجاهزة التي نرددها وبُحت منها حناجرنا. المؤكد أن هذه الشعوب صاغت رؤية جديدة للحياة. اضطرت أن تضحي ببناءاتها الفكرية والثقافية القديمة وتربط نفسها بقيم تقدم جديدة. دفعوا الثمن. ما هو هذا الثمن؟ سؤال سالت على بطحائه دماء غزيرة في البلاد المتقدمة.