حين يخطئ رأس كبير فإن نصف البشرية يوافقه. ليس هناك أشد ثورية من العبقري حين يعثر على حقيقة, ولكن ليس هناك من هو أشد رجعية منه حين يخطئ " إرنستو ساباتو ليس ثمة وصف لرسم شخصية الروائي والمفكر وعالم الفيزياء الأرجنتيني الدكتور أرنستو ساباتو أكثر دقة من ماذكرته زوجته ماتيلدي ريختر. تقول ماتيلدي :" ساباتو رجل مثير للجدل على نحو مريع , وهو غير مستقر وكئيب لكنه يعي بوضوح قيمته . يتأثر بكل ماهو سلبي ويتوق للحنو والعطف مثلما يمكن لطفل مشرد أن يكون , تلك الحاجة الى الحنان التي تكاد تكون مَرَضية , تجعله يفهم بالطريقة نفسها المعوقين والمشردين ويحس بهم. لكنه أيضا تعسفي وعنيف وعدواني ايضا " هذا الخليط من القوة والضعف والجنون والعبقرية هو ما خلق شخصية أرنستو ساباتو الروائية والفكرية , اذ إن الاضطراب هو الذي قاده في العام 1945 الى هجر الفيزياء بعد أن نال درجة الدكتوراه فيها من باريس وتعديل بوصلته تجاه الأدب حيث وجد فيه أرضا أقل لزوجة واكثر تماسكا. هذا التحول قاد ساباتو الى حصد جوائز أدبية رفيعة حيث فاز بجائزة" سرفانتس" التي تعد أرفع جائزة للآداب الإسبانية عام 1945 , كما فاز بجائزة عام 1967 لأفضل رواية أجنبية في فرنسا , ناهيك عن ترشيحه للفوز بجائزة نوبل مؤخرا. ساباتو الذي ناهز المئة من العمر, قام باحراق اكثر اعماله الابداعية خلال مسيرته الأدبية, وهو مايكشف مدى قلق الكمال الذي يعاني منه كما ويكشف سر عدم انتشاره عالميا.عندما سئل عن ذلك أجاب " ربما كان تطهيرا, أو ربما لأن جميع الأطفال تقريبا مهووسون بالنار" قالها مبتسما. لو ان سباتوا كان بئرا لسئمت وانت تنتظر صوت الحجر الذي ألقيته فيه , اذ ليس من السهل ان تدلي ذراعك لتلمس ملامح شخص بهذا العمق,وبالتالي, ليس ثمة مسبار يكشف مدى عبقرية وتشعب إرنستو ساباتو أكثر من الحوارات التي أجراها معه الأديب الأرجنتيني كارلوس كاتانيا وجمعها في كتاب حمل عنوان : إرنستو ساباتو بين الحرف والدم. هذا الكتاب الصادر عن دار المدى يجمع بين طياته العناصر الذهبية لكتب الحوارت: مُحاوَرٌ بقامة ساباتو , ومُحاوِر متمرس هو الأديب كاتانيا الذي استطاع استخراج كل مايمكن الخروج به من شخصية مزاجية كساباتو . بالاضافة الى مترجم متمكن هو عبدالسلام عقيل الذي نقل الكتاب بروح اللغة الأسبانية التي دون بها الكتاب الاصل. كاتانيا حاول قدر الامكان تتبع حياة الروائي ساباتو خطوة خطوة وسأله عن رأيه في كل شيء تقريبا, كان يصل معه الى حدود النكش المؤذي في مناطق مؤلمة في ذاكرة ارنستو كالحديث عن اطلاق اسم اخيه الميت عليه وتضاؤل قواه البصرية الى حد اقترابه من العمى, ومرض زوجته ماتيلدي وذكرايات الحرب وغيرها. تطرق الكتاب بطبيعة الحال لطفولة ارنستو وشبابه , كما ونشاطاته الحزبية انذاك اضافة الى حوارات حول الرسم والفن , اللغة وأسبانية أمريكا اللاتينة , نسبية القيم الجمالية , رؤاه حول العمى , النبوءات الأحلام والأحاسيس التحذيرية. تطرق الحوار أيضا التربية والتعليم في امريكا اللاتينية وحول العالم , الديكتاتورية , الأمل واليأس ,تمرد الشباب , الأصالة والترجمات وقائمة الكتاب المفضلين, وأخيرا أعماله الأدبية. يستنطق كاتانيا خلال الحوار ساباتو حول بعض المناطق السواداء في ذاكرته , محاولة منه لمعرفة تأثير مثل تلك التجارب في حياة ارنستو. احد أكثر الامور التي أثرت في حياة الكاتب هو فقدانه لنظره , والذي يفسره ساباتو تفسيرا غير تقليدي اذ يذكر بأنه كان تنبأ في قرارة ذاته بأنه مقبل على فقدان نظره يوما ما وهو ماحدث له بالفعل , يقول" كانت مسألة الأحاسيس التحذيرية الأوليه هاجسي الدائم , كنت باستمرار شغوفا بذلك , كان العمى يفتنني على نحو مشؤوم دائما , والعمى معضلة جوهرية في الروايات الثلاث التي نشرتها " ثم يساند ساباتو تجربته بدليل اذ يسرد قصة فيكتور برونر: " عاش ذلك الرسام الروماني تؤرقة قضية العرافة والتحذيرات القبلية وكذلك العيون.. رسم طيلة سنوات لوحات موضوعها "العيون", ولكن الأمر الأشد غرابة هو انه رسم نفسه عام 1931 لوحة صورت المأساة التي كانت ستحل به بعد حين : فقد بدت عينه اليمنى في اللوحة قد أقتلعت بسهم تدلى منه حرف "د". وفي العام 1938 عاد الى باريس كي يواجه مصيره فأثناء مشادة حدثت ذات ليلة في مرسم رسام قذف دومنغيس, الذي كان ثملا, احد الحاضرين بكأس طال عين برونر فاقتلعها !" يمضي ساباتو في حديثه حول رمزية الأحلام والنبوءات التحذيرية التي تحملها , والمستوى الجسدي والروحي للإنسان ثم يحاول المقاربة بين عقله الرياضي ويقيناته الروحيه لأيجاد تفسير لتلك المسائل المبهمة. ولا يخفي ارنستو انتصاره لبعض ممارسات الشعوب البدائية والتي استعلى عليها الغرب المتحضر ويؤكد بأن ما فاتنا في سعار اللهث وراء المدنية هو سلامنا الروحي يقول :"سألوني مرة ان كنت افضل جذام القرية "البولينيزية" القديمة. تلك طوباوية فظة. ان ما أود أن أقوله هو : إن الوثنية العلمية قد أوصلتنا الى ازمة عصرنا الروحية المريعة .. وماذا بعد كما يقول شوبنهاور؟ التقدم الآن رجعي والرجعية تقدمية وعندما اتحدث عن الرجعية أرجو ألا يضعوني في صف أنصار الظلم الاجتماعي اريد قبل كل شيء عدالة اجتماعية وحرية , لكنني لا أريد جنونا تقنيا " ينتقل كاتانيا نحو محور الثقافة والتربية ليكشف عن أحد آراء ساباتو غير المسبوقة, اذ يهاجم أرنستو اسلوب التعليم الذي يعتمد على "الهوس الموسوعي" في مختلف انحاء العالم واصفا اياه بإغراق الذاكرة بتفاصيل ومعلومات وأرقام لا تلبث أن تتبخر :" انهم يحاولون تعليم الطالب كل شيء وتكون النتيجة اننا لانكاد نعرف شيئا...الأمر الغريب هو انهم لايكتفون بفرض كل تلك التفاصيل علينا وحسب, بل ويمنحوننا درجات سيئة ان لم نكن أهلا لترديدها كالببغاوات" كما ويرى بأن حل التعليم يكمن في اعادة احياء المعلمين ذوي الرؤية الشمولية تماما مثلما هو الواقع في الحياة اليومية. يأخذ كاتانيا ضيفه باتجاه الكتابة وهموم الكاتب لينقل له ساباتو كيف يرى الكُتاب: "الى جانب أولئك الذين يكتبون لأسباب وضيعة, ثمة نوع من الكتاب يشعرون بالحاجة المبهمة , انما الملحة, ليكونو شهود مأساتهم وبؤسهم , انهم شهود حقبة, انهم اناس لايكتبون بسهولة وانما ينتزعون انتزاعا انهم اناس يسيرون عكس التيار... يحلمون الحلم الجماعي ولكن أحلامهم –خلافا للكوابيس الليلية- تعود من تلك النواحي المظلمة التي غاصت فيها وتغذت منها على نحو مشؤوم" ثم يصف ساباتو تجربته الشخصية مع الكتابة :" كي اتمكن من انجاز أعمالي اواجه مصاعب لا تطاق, انها معاناة تكاد تكون مستمرة ليس بالمعنى الروحي فحسب بل الجسدي أيضا. هذا بالاضافة الى عدم الاطمئنان والإحباط والغضب من النتائج التافهة التي تظهر شيئا فشيئا والى التردد والقناعة بأن ذلك مالم أكن انشده , الكتابة تسبب لي آلآما في المعدة وعسرا في الهضم, كانت أطرافي تتجمد وأعاني من الأرق ومن آلآم الكبد" يختتم كاتانيا حواراته الاستثنائية مع ساباتو بالحديث عن رواياته الثلاث المحظوظة التي لم تطلها يده بالاحراق كما فعل بأعماله الأخرى. يبرر ذلك بقوله: "ان كان عباقرة مثل ستاندال لم يتركوا لنا اكثر من كتابين وعبقري مثل سرفانتيس قد خلده عمل واحد فقط, فلماذا نطالب كتابا ليس من المؤكد انهم من ذلك المستوى بروايات عديدة؟ اما فيما يتعلق بي فسأكون راضيا جدا ان كنت كتبت رواية واحدة تقاوم الزمن" تضمن الفصل الأخير من الكتاب الحديث عن رواياته "أبطال وقبور" , " النفق" و " أبدون" . وتطرق خلال الحديث الى شخوص تلك الروايات وتلك الطبقات غير المرئية في اعماقها والتي قد تخالف ما تبدو عليه. يقول عن رواية "النفق" : " هي في المستوى الأول اعتراف مجرم بأنه قتل بدافع الغيرة وفي مستوى أعمق أو في المستوى الأشد عمقا مأساة الوحدة , مأساة التواصل , مأساة البحث عن المطلق . لو أن ما يقرأ في تلك القراءة الأولى كان حقيقة, لما كانت النفق سوى رواية نفسانية وأنا احاول أمرا آخر ليس في هذه الرواية فحسب بل في الروايات الأخرى التي نشرت أيضا" ينهي الكاتب والمسرحي كارلوس كاتانيا حواره الرائع مع الروائي بعد أن اجتلب منه كل ما أمكن أن يبوح به الروائي والمفكر الأرجنتيني أرنستو ساباتو , حادثه على مدى احدى عشرة جولة عن هواجسه على المستوى الشخصي وعن آرائه في اشكالات الانسان المعاصر وهمومه ,عن أميركا اللاتينية واللغة , الأدب والرياضيات وعما لايمكن حصره هنا. الكتاب يقع في 229 صفحة, ليس منها مالا يستحق القراءة !