قال لي وقد خرجنا من جلسة ثقافية متنوعة وساخنة حول الشعر والرواية والفن والرسم والفلسفة والسياسة أيضاً، قال: هل تسمح لي أن أقول لك شيئاً شريطة ألا تغضب؟.. فقلت ولماذا أغضب يا سيدي؟ فأنت أولاً لست ممن يثيرون الغضب ويقصدونه من أجل إيذاء الآخرين.. والأمر الثاني أنني من كثرة ما أثير غضبي لم اعد أغضب لشيء، فقد كثرت، المغضبات، والمنغّصات من حولنا حتى صارت جزءاً من حياتنا فلم نعد نبالي كما قال المتنبي: فهان فما أُبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أُبالي قال: اسمح لي إذاً أن أقول لك: إن هناك من يرى أن ما خُضتم فيه الليلة ليس إلا نوعاً من أنواع الهدر الزمني، والعلمي، وانه ضرب من الوهم وشطحات الخيال.. فكل ما هو من الخيال فإنما هو وهم يجره وهم آخر.. فكل الكتب والرسوم والدواوين والقصص..، كلها ركام فارغ من أناس مرضى بأوهام حادة.. فما هي المحصلة النهائية من كل أعمال هؤلاء وإنتاجهم؟!! القصيدة لا تشفي مريضاً ولا تغني مفلساً ولا تشبع جائعاً.. واللوحة مهما عظمت إنما هي محاكاة لشيء يمكن لمسه والتمتع به فلن تتفوق اللوحة مهما ابدع راسمها على اللوحة الحقيقية وهي الطبيعة. والنحات مهما كان حاذقاً فإن إزميله لن يصنع أجمل ولا أروع مما هو حي مطلق.. والفلاح الذي يحرث الأرض ويتعهد الشجر، ليثمر كذلك الذي يشذب الزهر كي يملأ الحقل عطراً واريجاً أفضل ألف مرة ممن يحرث بالريشة خيالاً ووهماً..! والطبيب الذي يفحص المريض ويحدد المرض ويكتب وصفة العلاج أفضل ألف مرة ممن يهيم على وجهه ويكتب قصائد كلها وجع ووله ودموع. والرجل البسيط الذي يحدثك بصدق، ويضحك بصدق، أفضل كثيراً ممن يقف على المسرح يفتعل المواقف التمثيلية المضحكة.. أو المآسي المحزنة ، والعامل في المصنع الذي يصب قوالب الحديد ويصنع منها الطائرة والسيارة والتلفاز الخ.. اجدى من ذلك الفيلسوف الذي يصنع قوالب من التحليل والتعليل والهرطقة. والمهندس الذي يصمم العمائر الشاهقة والجسور المعلقة أفضل بكل تأكيد من الناقد الذي يهدم كلاماً، ويبني كلاماً، بلا ضابط، ولا رقيب يحاسبه على بنائه، وهدمه إلا رغبته وهواه!! إذاً ما جدوى أن نضيع زماننا وأعمارنا في الهرج والمرج وتجارة الكلام؟ الشاعر لا يؤسس مدرسة، ولا يبني بنكاً ولا مصنعاً.. ومدعي الفلسفة لا يرسم خطة تنموية، ولا يعد مشروعاً حضارياً يدر الخير. عود ثقاب أربح من قصيدة.. وإبرة خياطة أفضل من كتاب فلسفة يؤلفه معتوه. فإن كان ولابد من ذلك فدعوا الأمور تجري في أعنتها.. فاتركوا الشاعر يشعر لنفسه واتركوا الرسام يرسم لنفسه.. واتركوا الفيلسوف يفلسف لنفسه. ولا تفرضوها علينا بالترويج والتهريج والرغاء والثرثرة، تحت مسمى الثقافة والفن..!! خذوا العبرة من الطير فهي تغني كما تشاء.. وهي تبني أعشاشها وتلتقط غذاءها من باطن الأرض دونما ضجيج أو عجيج. خذوها من البحر انه يرقص رقصة الطبيعة دون أن يفتقد وظيفته كمستودع هائل للكائنات الحية الرائعة، وكمصدر عظيم للحياة، والأحياء.. حتى هذه القصص والروايات التي تنثرونها، وتنشرونها، كلها حكايات تأخذونها من أفواه الناس وتزيدون عليها من كذبكم، وخيالكم وتبيعون للناس كذباً، ودجلاً، وكلاماً ملفقاً وتملأون الدنيا ضجيجاً حول هذا الكذب والدجل والتزوير!! خذوا الحكمة من الشمس إنها تملأ الدنيا ضياء ووهجاً وحرارة ودفئاً.. وتمنح النبات قوة ونماء.. والقمر يملأ الكون بهاء وضياءً وجمالاً.. بلا صخب ولا مَنّ ولا أذى. قلت لصديقي: لقد وعدتك بأنني لن أغضب.. ومن ثم فإني لن أرد عليك خوفاً من أن ينفجر غضبي.. ثم افترقنا..!!