لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 429 ه كتاب طريف اسمه "تحسين القبيح وتقبيح الحسن" أورد فيه الصفات التي تعارف الناس على أنها قبيحة، وقول بعض الأدباء والبلغاء والعظماء في تحسينها، والأشياء الحسنة التي قال فيها الخاصة أقوالاً أو أبياتاً في تقبيحها، من ذلك قول علي بن الجهم في تحسين البخل: من وهب المال في عمله فهو أحمق، ومن وهبه في عزله فهو مجنون، ومن وهبه من كسبه فهو جاهل، ومن وهبه مما استفاده بحيلته فهو المطبوع على قلبه المأخوذ ببصره وسمعه، وقول محمد بن الجهم: اتركوا الجود للملوك فهو لا يليق إلا بهم، ولا يصلح إلا لهم، ومن عارضهم في ذلك ثم افتقر وافتضح فلا يلومنّ إلا نفسه، ووصفه للوقاحة من باب التحسين: الوقاحة كالقداحة لولاها لما استعر لهب ولا اشتعل حطب، وعكس ذلك في تقبيح الحسن نقله في الأصدقاء قول عمرو بن العاص: من كثر إخوانه كثر غرماؤه يعني في الحقوق، وكان عمرو بن مسعدة يقول: العبودية عبودية الإخاء لا عبودية الرق، وقال إبراهيم بن إلياس: مثل الإخوان كالنار قليلها متاح وكثيرها بوار. وقال الكندي لابنه: يابني الأصدقاء هم الأعداء لأنك إذا احتجت إليهم منعوك وإذا احتاجوا إليك سلبوك. ألّف الثعالبي كتابه قبل أكثر من ألف عام، وذكر أنه لم يسبق إلى مثله في طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات، غير أن ما استجد بعد الألف أن تحسين القبيح بدأ يأخذ صوراً لم تخطر على بال الثعالبي ولو علم عنها أو لو أدرك زماننا لوجد أن ما أورده من أمثلة لا يعدّ شيئاً بالقياس إلى ما استحدثه معاصرونا، فقد أصبح لدينا تحسين مركب للقبيح وليس تحسيناً فقط، فالمجاري تم تحسينها إلى الصرف الصحي ثم بدأ الصرف الصحي يتم تحسينه حسب المدن والمحافظات فبحيرة المجاري في جدة اسمها بحيرة المسك، وفي الطائف اسمها بحيرة العنبر، وفي ضمد/ جازان اسمها بحيرة الفل، والأحياء التي تنشأ في غفلة عن القانون وتغافل من النظام بوضع اليد أو النصب والاحتيال أو الرشاوى سواء كانت مملوكة للدولة أو الأفراد تحول اسمها من أراض مغتصبة إلى أحياء عشوائية ثم تغيرت إلى عفوية، وعمليات النصب المالي والاحتيال على الناس سمّيت بتوظيف الأموال، وبعد أن أصبح هذا المصطلح قبيحاً تم تحسينه مرة أخرى باسم مساهمات، وأصبح المحتالون والآكلون لأموال الناس بالباطل يسمون هوامير، والهامور هو نوع من الأسماك المفضلة في الجزيرة العربية. تغيير الأسماء القبيحة إلى جميلة أسلوب معروف في التاريخ الإسلامي لدواع وأسباب معروفة ومحمودة مثل تغيير الرسول - صلى الله عليه وسلم - اسم برة إلى زينب موافقة للآية الكريمة (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) أو تغيير الاسم إذا كان غير جميل أو لا يليق برجل مسلم أو امرأة مسلمة مثل تغييره - عليه السلام - اسم رجل من حنين من غراب إلى مسلم وتغيير الملك فيصل - رحمه الله - اسم اللاعب الشهير سعيد غراب إلى عقاب يوم أن قاد فريقه إلى البطولات، وهذا التغيير في الأسماء في الأمثلة السابقة أسبابه معروفة، إما من باب التفاؤل، أو لأن الاسم القديم غير لائق بصاحبه، أو لمخالفة شرعية، وهو أمر موجود في كل اللغات والثقافات فأمريكا التي حاولت الابتعاد عن العنصرية والتفرقة بين الناس بسبب عرقي والحرص على المساواة تحولت من إطلاق كلمة العبيد Slave إلى زنجي Negro إلى كلمة السود Blacks ثم وجدت في هذه الكلمة تمييزاً بسبب اللون فغيرته إلى مصطلح الأمريكيين الأفارقة American African، غير أن التحسين المركب للقبيح في تسمية البحيرات والنصب والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل يختلف عن ذلك؛ لأنه يدخل فيه جانبان أولهما: التزييف وتصوير الأمور على غير حقيقتها، والثاني هو الاستغفال من باب الاستمرار في الكذب حتى يصدقها مطلقو الكذب ويعتاد عليها الناس. تعتاد بعض المجتمعات على الحساسية والحرص على مشاعر الآخرين في غير أماكنها الصحيحة ثم يؤدي استمرار ذلك إلى المجاملات ويؤدي التمادي فيها إلى فتح الباب للنفاق الاجتماعي، ومتى ما أصبح النفاق الاجتماعي أمراً معتاداً شاع في المجتمع التزييف والتواطؤ على التدليس، وضاعت معهما معايير الفضيلة والمروءة والصدق والجمال فيصبح البخيل حريصاً والجبان رزيناً والوقح صريحاً والمتهور مقداماً والجائر مستبداً عادلاً والعيي حكيماً والنصاب فهلوياً وصاحب المال شيخاً ومشتري الشهادات بالمال والخداع وجيهاً والمنافق صاحب الوجهين سريع التكيف والكاذب دبلوماسياً في تعامله!.