عرف الشاعر بشفافيته وحذقه في التقاط الصور الاجتماعية وتشكيلها في لوحات شعرية, يغلب على أكثرها الإيجاز وحصرها حول فكرة طارئة يلذ للشاعر طرحها والإسراع في بثها, إما لطرافتها أو للإثارة, واستعذاب الشعراء الخوض فيها, وإطراب المجالس بإيقاع الحوارات التي تثار حولها, وتجذب المتلقي بإيقاعها ومضمونها. ومن ذلك أن فتى يدعى هندي تقدم لخطبة فتاة آثر والدها زواجها من رجل متقدم في السن لاعتبارات اجتماعية في مجتمع قروي يخضع لقيم اجتماعية تفرض سطوتها وتباهي بسيادتها في مثل هذه المجتمعات القروية, كان ذلك قبل ما يزيد على المائة عام تقريباً. كان الفتى شاعراً وكانت الفتاة مستسلمة لتلك القيم, راضية بما عقد والدها العزم عليه, إلا أن تعلق الفتى بها وانتصاره لنفسه حفزاه إلى التعبير عن الموقف فقال مخاطباً الفتاة: يا سهيّف الذرعان يا دقيِّق العود لا تاخذين اللي به الشيب لاحِ يسْهرك بالقحَّة وياكلك بالدود ويجعل عيونك ما تذوق المراحِ العَوْد مثل الثِّلب وان ميّل السوق وان سامه الدلال ما به رباحِ يمتدح الشاعر جمال الفتاة وينصحها برفض الزواج من مسن يقلق منامها بكثرة السعال وتسرب القمل من بدنه وثيابه إليها, فيحرم عيونها لذة النوم وبدنها الراحة, ثم يشبه المسن بالبعير الهرم الذي يُزهد في شرائه. استعذب المغنون الأبيات ورددتها ملاعب الخبيتي, وراق لبعض الشعراء معارضتها تعاطفاً مع العريس ممن هم في سنه فهبوا لنصرته, فقال أحدهم: يا راكبا حراً من التيه مجلوب مثل الربَيْدي وان خفق بالجناحِ فوقه غليِّم شارب كل مشروب من عند عزوة سدَّها ما يباحِ ينصى لعروة أهل فَقْد وما جوب نطَّاحة للضيف وقت اللفاحِ يقولون "هندي" حط في الشيب عذروب ويحذِّر الخفرات خط الصباحِ و"يا سهيّف الذرعان يا دقيق العود" لا تاخذ اللي ما بهرجه فلاحِ كم شايب ظلا على الخيل زيزوب بالهجن يتلونه عيال الفلاحِ وكم شايب في السبر والغزو جندوب في شرة العيَّيْل أول مناحي وكم شايب بيته كما ضايل السوق وذكر النبي عند المسا والصباحِ وكم شايب جاله كما العد مورود يصدر مظامي من جميم قراحِ * * * صيَّحت للشياب والقول موكود هندي تحدَّى اهل النبا والسماح حُطُّوه في المشهد لجهن ان وحروب وتواردوا يا اهل النمش والرماحِ كل شايبٍ منا يتحزم ببالود ويطب في الميدان ضافي السلاحِ حتى نرد لشيبنا كل مسلوب وناخذ نقانا من دعي الصلاح بدأت الأبيات بوصف مطية الرسول, حرة مجهولة المصدر لندرتها في السرعة التي تشبه سرعة الصقر الأربد إذا أطلق جناحيه للريح, أما الرسول فهو الخبير الذي شرب خبرة الحياة متفوقا في الفهم والمعرفة, موفداً من جماعة متضامنة لمنعتها وقوتها, وهم من "حرب". أما المرسل إليهم فهم "عروة" من "جهينة" جماعة الشاعر والزوج. ويجمع بين جهينة وحرب حسن جوار وتقارب في العادات والتقاليد. ثم تعرض الأبيات القضية, مشيدة بكبار السن ومناقبهم, مثيرة الرأي العام ضد الفتى, ومنددة بمقولته, وداعية إلى إحضاره وتأديبه واستعادة حق مسلوب من كبار السن. أما الشاعر الآخر فكانت معارضته لأبيات الفتى أقل تنديداً فهو يقول: يا راكبا من عندنا فوق مندوب مثل الربيدي وان نكث من قَراها من انصب "الفقرة" غدت له مغاوير حتى تواطى بالسهل من وطاها الميركة والخرج فوقه تماثيل من ساس هجنٍ مغتري في غذاها ينصى لهندي ريد نقاعة الطيب بنت الربوع اللى حسين نباها نجره يدل اللي بعيد المسايير وله كرمة يشبع بها من نصاها اللي يحلِّي زيد ودقيِّق العود نجل العيون اللى حسينة حلاها ضرَّيت نفسك يا عذيَّ التقادير أجملت كل الشيب تقصب رشاها كم شايب حمَّاي تالي المظاهير لا حاجت العازات يثنى وراها كلا الشاعرين من الاحامدة "هريسان" و"ابن سفر", وكلاهما التزما أدب الخطاب في شعرهما, رغم وقوفهما إلى جانب كبار السن, إلا أن ابن سفر بالغ في وصف الذلول وزينتها, وامتدح الفتاة التي يريدها الفتى, وامتدح أهلها, كما أنه امتدح كرم الفتى وجوده, وانتقده في الاجمال والتعميم. وقد شارك شعراء آخرون لم نقف على مشاركتهم, وبخاصة شعراء جهينة الذين كانت ربوعهم مدار هذا الحوار الشعري المثير لاسيما في ذلك الزمن المتطلع لمثل هذا الحوار. وحتى الأبيات التي أشرنا إليها ربما سلب الرواة بعض أبياتها أو غيروا من مفرداتها. وإذ أطرح ذلك فإني أتطلع إلى من يضيف إليه ما غاب عني, ويرد ما أخطأت فيه إلى أصله, فإن آفة الأخبار رواتها لاسيما ما كان قديماً منها.