سنبدأ بحدوتة. كانت التوصية الذهبية التي يتبادلها موظفو ادارات الموظفين في الوزارات عند تقديم ميزانياتهم لوزارة المالية لطلب احداث الوظائف تقول: اذا كنت تحتاج لإحداث وظيفة واحدة فاطلب عشرة وظائف وحاول أن تخفي الوظائف الشاغرة لديك لتضمن اعتماد الوظيفة المطلوبة. ثم جاء وقت الضنكة فتقرّر عدم زيادة بند الرواتب ولكن بإمكان الوزارة التي تحتاج لإحداث وظائف أن تلغي مقابلها وظائف شاغرة بنفس التكاليف فمثلا اذا ارادت جهة احداث وظيفة متوسط راتبها الشهري 12000 ريال فعليها أن تلغي مثلا ثلاث وظائف شاغرة متوسط راتب كل منها 4000 ريال وبالتالي تضمن احداث الوظيفة. فكانت النتيجة أن بدأت الوزارات التي كانت تشتكي أنه يوجد لديها نقص في وظائفها ولايوجد لديها شواغر الى الكشف عن شواغرها وتسابقت لطلب الغاء أعداد كبيرة من الوظائف الدنيا االشاغرة للحصول على عدد قليل من الوظائف في المراتب العليا. انتهت الحدوثة. سؤال هل رأيتم (أو سمعتم) أي مسؤول عندما يوجه له سؤال من جهة اعلامية يقول ماهو سبب تقصير ادارتكم ياسعادة المدير عن أداء مهامها؟ من غير أن يكون جوابه جاهزا انه نقص عدد الموظفين لدينا وان وزارة المالية رفضت اعتماد الوظائف التي طلبنا اعتمادها ؟ الجميع يعرفون ويعترفون بتقصير اداراتهم عن اداء مهامها ولكنهم دائما وأبدا كلهم يلقون تبعة تقصيرهم على تكبيل وزارة المالية لأيديهم. بينما الحقيقة ان وزارة المالية بريئة براءة الذئب من تكبيل يد أي جهة بما فيهم يد وزارة التخطيط من اداء مهامها (على حد تعبير الدكتور فهد) فالحقيقة أن وزارة المالية لديها موارد محدودة ولا تستطيع أن تلبي جميع الطلبات. ومن ناحية ثانية فإن وزارة الماليه تحدث الوظائف ولكن ليس بإمكانها أن تضمن جودة أعمال المعينين عليها فهي كالحانوتي الماهر الذي يغسّل ويكفّن ويلقّن الميت الشهادتين ولكن لا يضمن لذويه أن يدخل ميّتهم الجنّة. القاسم المشترك الأكبر الذي يجمع بين نظرة الدكتور فهد ونظرتي أننا نتفق على وجود الأخطاء في الخطة ولكن نختلف اختلافا كليا في تشخيص وأسباب المشكلة وهذا الاختلاف بين الاقتصاديين (اسوة باختلاف علماء الأمّة) هو اختلاف الرّحمة لأن الحوار وتبادل الآراء المتعارضة يوضّح الجوانب الخفيّة للمشكلة ويكشف لنا الأخطاء وتصحيحها وبالتالي يقودنا في النهاية الى المشي في الطريق الصحيح بدلا من الاستمرار - من غير أن نكتشف - أننا كنا نمشي في الطريق الخاطئ. الحلول التي يقدمها الدكتور هي في رأيي نسخة من الحلول التي يقدمها معظم الاقتصاديين لدينا تفترض أن مصروفات ايرادات البترول ستدوم الى الأبد ولذا هو يصف المظاهر بأنها شواهد للتنمية بينما الحقيقة كما ان مايسميه شواهد التنمية يختلف عما يسميه أهداف التخطيط فإن مظاهر (أو حصيلة حاصل) صرف ايرادات البترول تختلف عن شواهد التنمية فنحن لايمكن أن نسمي الشوارع والكباري الحديثة - رغم فخامة مظهرها - أنها شواهد للتنمية اذا كانت تغرق عند نزول أول قطرات أالمطر. وأخيرا ولكن - بالتأكيد - ليس آخرا فإن اعتراضي الأكبر هو على قول الدكتور بالنص: " يمكن تحديد سعر النفط الأدنى الذي تعتمد عليه الميزانيات... دون تعرضها لهزات ... كما حدث في الثمانينيات والتسعينيات...فلماذا تزايد عجز الميزانيات في العقدين الماضيين من غير معرفة ذلك مسبقا... ستقول تدهورت أسعار النفط ... ولكن باستطاعتنا التنبؤ بذلك" انتهى الاقتباس. لقد كنت خلال فترة الثمانينيات أكتب رسالة الدكتوراه عن سوق البترول وكنت حينذاك متابعا دقيقا لكل مايجري في هلسوق ولذا يمكنني أن أقول بكل ثقة إنه لم يكن باستطاعة أحد التنبؤ ليس فقط بالأسعار بل كان المنظّرون (معظمهم محللون يسمون انفسهم خبراء في سوق البترول) في تخبط وحيرة في تفسير الظواهر السائدة في سوق البترول الى الحد الذي ذهب بهم التخبط للإفصاح عن عجزهم بالقول إن دول اوبك دول غير رشيدة ولايمكن التنبؤ بتصرفاتها تضع أسعارا أعلى من سعر توازن السوق ولن تلبث طويلا حتى يتفكك الكارتل وتنهار أسعار البترول ويتنبؤون بأن أسعار البترول ستبقى منخفضة عند مستوى تكلفة استخراج البرميل في دول الخليج التي كانت أقل كثيرا من الدولارين. أرجو أن لا يفهم من كلامي التقليل من أهمية المقالتين فلا شك أنهما يثيران الكثير من النقاط المهمة وتفتحان بابا لمزيد من النقاش المفيد وقد يجد الدكتور الآن فرصة لينفض عنهما الغبار واحيائهما من جديد بأفكار جديدة لأنه كما يبدو مهتم ومتابع جيد للخطة. * رئيس مركز اقتصاديات البترول " مركز غير هادف للربح"