«غضب الماء» في التقاليد الأوروبية، ليست له أية علاقة بسيل «جدة» الذي أصبح تاريخ المدينة يرتبط به بشكل من الأشكال، كأن نقول: «قبل السيل جدة غير..» أو «بعد السيل جدة غير..» لأن «غضب الماء» في الثقافة الأوروبية.. يرتبط ب «الكوارث الطبيعية» التي تنجم عن الفيضانات المدمرة وما يصاحبها من واصف وأعاصير.. لا تستطيع أن تمنعها كثير من الاحتياطات البشرية مثل السدود الاسمنتية والترابية.. لكن تستطيع أن تحد من عدد ضحاياها التحديرات وكثير من التبدابير التي تسعى لإنقاذ البشر قبل الممتلكات. ول «غضب الماء» مواسم.. أقساها تلك التي تنتج عن ذوبان الثلوج بفعل تحول «مناخي» غير متوقع.. ولاشك أن تجارب كثير من الدول.. وبعد أحداث فاجعة كثيرة. وصلت إلى مراحل متقدمة لتنظيم مجاري الماء.. وتحويل بعضها بإنشاء بحيرات شاسعة خلف سدود عملاقة.. إلا أن كثيرا من دول آسيا وشرق أوروبا ما زالت تعيش هاجس «الفيضان». وفي الفن والإبداع هناك أعمال كثيرة رصدت بعض فصول «غضب الماء» وآثارها على الإنسان والحيوان والحياة والطبيعة من حولهما.. ولعل أهم تلك الأعمال رواية جون شتاينبيك «عناقيد الغضب» التي أشار لها الرئيس روزفلت في إحدى خطبه وأدت إلى تغيير جدوى في قوانين الإصلاح الزراعي.. وأدت لحصول كاتبها على نوبل الأدب. غير أن أهم عمل إبداعي عن «غضب الماء» كتب قبل شتاينبيك بكثير جداً.. وهو عبارة عن ملحمة شعرية مؤثرة للشاعر الروسي العظيم «بوشكين» بعنوان «الفارس النحاس» ونشرت عام 1833. وسبق لي أن كتبت عنها «على ضفاف النص» في جريدة عكاظ بتاريخ 24 يونيو عام 2002م.. ما سوف أجد نفسي متداخلاً معه بحكم حبي الكبير لبوشكين ولحرارة الأثر الذي ما زال باقياً في نفسي منذ قرأت «الفارس النحاسي» لأول مرة بترجمة الأستاذ الكبير إبراهيم شكر التي نشرها عام 1978م.. خلال إحدى أسوأ مراحل «الحرب الأهلية اللبنانية» وقدم لها قائلاً: - «يوم فيضان نهر النيفا عام 1812م خلده بوشكين «...» حكاية يوم واحد كألف سنة.. حكاية مدينة وأمة. وكما في روسيا كذلك في لبنان «...»على أرضه مر وحش همجي داس ازهار الحدائق وأحرق كتب الأطفال ..وقتل السعادة في عيون الأبرياء "في إشارة للاجتياح الإسرائيلي لبيروت. يعتمد الحدث الرئيسي في الملحمة على إعادة استلهام الفاجعة التي نتجت عن الفيضان المدمر لنهر النيفا.. وهي أحداث مأساوية تعمد الشاعر ربطها بحدث فاجع آخر.. حيث أن عزو «نابليون» لروسيا كان في نفس العام 1812م.. وهو الحدث الكبير الذي أيقظ الحس القومي «الروسي».. ورغم أن بوشكين درس في المعهد الفرنسي إلا أنه بدأ الكتابة والنشر عام 1814م بروح ثورية محملاً القيصر مسؤولية التراخي التي أدت إلى تفكيك القوة الروسية روحياً وعسكرياً. قبل أن يعيد بلورة استلهام التاريخ المرتبط بالوجدان الشعبي العام في قصيدة «الفارس النحاسي« عام 1833م.. مزاوجاً بين عدة أبعاد اجتماعية وسياسية حدثت على ضفاف النيفا لتاريخ طويل من القهر والعبودية والاستغلال. تبدأ الملحمة الشعرية ب «يفجيني» وهو يسير على ضفة النهر.. يملؤه التفاؤل والأمل.. والحلم بحياة أكثر جمالاً وإشراقاً.. يحلم بالمستقبل فنسمعه يقول: - «أحبك يا مدينة بطرس، أحب وجهك المهيب أحب النيفا الجبار المنساب بردائه الزاهي أحب أسوارك وقضبان الحدائق.. أحب لياليك الحالمة.. وأنوارك في ليالي الدجى.. عندما أكون في غرفتي أقرأ أو أكبت، دونما حاجة لقنديل» يمضي حالماً يقلب جميع أحوال المدينة.. حيث الحبيبة تسكن قريباً من النهر.. ولا شيء بخاطره سوى حلم الزواج والعمل والعيش هناك، حيث يريد أن يحيا ويموت إلى جوار حبيبته.. و.. عندما يعود لحجرته يجفوه النوم: - «فيم كان يفكر..؟! في كونه معوزاً.. وأن عليه أن يعاني كثيراً ليصل إلى كفايته وكرامته.. وكيف أن من الممكن أن يجمع الله له بين الغنى والذكاء.. «...» فكر أيضاً.. أن الريح لم تهدأ وأن مياه النهر لم تتوقف عن الارتفاع». بعد أن يغفو «يفجيني» يفيض النهر ويجتاح المدينة.. وطبعا ليس بفعل سد مجاري السيول ونهب المال العام.. ولم يجد يفجيني ما ينقذه من الغرق سوى أن يتعلق بتمثال «الأسد» المرمري الذي ارتفع عالياً. وهناك بدت له حياته كأنها لم تكن سوى حلم آفاق منه ليرى أن حبيبته قد زال بيتها ولم يبق له أي أثر وقريباً منه رأس تمثال القيصر وهو يمتطى جواداً برونزياً يطل على النهر الهائج من مكان مرتفع لا يصله الماء. يبقى هناك في مكمنه إلى أن ينسحب الماء من المدينة ك «أسد غاب عف عن طريدته». هل يجب أن تكتمل مساءلة بعض من تسبب في كارثة جدة دون الإعلان عن الأسماء.. وعن طبيعة العقاب.. لا أظن.