فها هي كل الأمم تصر على التعليم في كل المراحل بلغتها الأم، مع أنها لا تغلق الباب أمام اللغات الأخرى الأكثر شيوعاً بتعليمها لغة ثانية بل تشجع ذلك وتدعو إليه , كما هو الحال عندنا , كما أنها تترجم من كل اللغات الأجنبية الجديد والنافع من العلم إلى لغتها الأم، وقد كان هذا شأننا في الماضي، في العصور الإسلامية المتتابعة. يا خادم الحرمين الشريفين.. الشكر لا يفي، وكلمات العرفان لا تكفي، بل العمل الفعلي المثمر هو الذي سيكون، ولتحقيق الآمال عملياً سيعطي . تتابعت منذ أعوام مقالاتي عن حال اللغة العربية اليوم، وأن بلادنا هي موطنها، والأجدر برعايتها، وأن نعمل مخلصين جادين متمسكين على أن نكون النموذج الأعظم لكي يحذو الجميع من أوطان أمتنا العربية حذونا في تعليمها، وتعلمها، وإثرائها، فهي وعاء تراثنا وثقافتنا - بل هي ذاتنا وهويتنا، وأصالة منشئها في بلادنا، وخدمتها والعناية بها واجب يفرضه الدين علينا، وتنادي به المروءة. ** ** ** ولهذا فإني كنت حريصاً على ألا ينضب المعين، أو يقل ماء المحيطات، بل تبقى بلادنا - المملكة العربية السعودية - هي المورد الثري للغة العربية ذات القدر العالي، فهي التي شرفها الله تعالى حين أنزل القرآن الكريم (بلسان عربي مبين). ** ** ** وبدأت الآمال الغالية في المزيد من العناية باللغة العربية الخالدة تكبر منذ إعلان القمة العربية التي عقدت في بلادنا، في الرياض 1428ه - 2007م، وكأنها كانت على موعد تاريخي مع ما تضمنه البيان الختامي على غير العادة للمؤتمرات ولقاءات القمة، وحدث ذلك بفضل اهتمامكم الدائم - يا خادم الحرمين الشريفين - بشؤون أمتنا، والحرص الذي تعودناه من قيادتنا الرشيدة، إذ تضمن البيان ضرورة ترسيخ أصول وبناء اللغة العربية، وجعلها لغة التعليم في مراحل الدراسة كافة، ولكل المواد الدراسية، وأن تكون هي لغة البحث العلمي والمعاملات التجارية، جاء ذلك فيما نصه: (ضرورة الاهتمام باللغة العربية، وأن تكون هي التي يعبر بها أبناؤها عن حياتهم وعلومهم) وأيضاً: (وجوب حضور اللغة العربية في جميع الميادين، بما في ذلك وسائل الاتصال، والإعلام، والانترنت وغيرها). ** ** ** يا خادم الحرمين الشريفين.. كما هو دأبكم.. الاهتمام بكل رأي.. والأخذ بكل فكر فيه خير ونفع، اليوم تتم فرحة الرجاء الذي رفعته إلى مقامكم السامي، وكتبت عنه في الصحافة الوطنية آملاً أن تكون بلادنا هي الأولى والرائدة في العناية بلغة القرآن الكريم، إذ صدر بسامي توجيهكم قرار مجلس الوزراء بتاريخ 6 ربيع الثاني 1431ه بتنظيم (مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية)، والذي يأتي من أبرز أهدافه: 1- المحافظة على سلامة اللغة العربية. 2- إيجاد البيئة الملائمة لتطوير وترسيخ اللغة العربية ونشرها. 3- الإسهام في دعم اللغة العربية وتعلمها. 4- العناية بتحقيق ونشر الدراسات والأبحاث والمراجع العربية. 5- وضع المصطلحات العلمية واللغوية والأدبية، والعمل على توحيدها ونشرها. 6- تكريم العلماء والباحثين والمختصين في اللغة العربية. 7- تقويم الخدمات ذات العلاقة باللغة العربية للأفراد والمؤسسات والهيئات الحكومية. يا خادم الحرمين الشريفين.. مهمات جليلة، ومسؤوليات كبيرة.. كثيرة متداخلة.. وطنية وعربية وعالمية.. شاملة كافة ما اللغة العربية بحاجة إليه، وما هو حق لرجالها وعلمائها من التكريم والعناية سوف يقوم هذا المركز بتحقيقها. وبإذن الله يزداد هذا المركز عطاء بجعله شخصية اعتبارية ذات استقلال مالي وإداري حتى ينطلق حراً نزيهاً، وليكون عطاؤه شاملاً بلادنا، وبلاداً أخرى كما هو في القرار. ** ** ** هذا ومن المؤكد أن إثراء اللغة العربية يتحقق أكثر بالاتصال بكل ما في اللغات الأخرى عن طريق الترجمة العلمية لكل ما فيها من إنتاج علمي وفكري مفيد، لهذا كان التماسي الذي سبق رفعه إلى مقامكم السامي بإنشاء مركز متخصص للتعريب، يقوم عليه رجال مؤهلون تأهيلاً عالياً في المجالات العلمية والعملية المختلفة، مما يعزز من ثراء لغتنا الخالدة وأصالتها، فها هي كل الأمم تصر على التعليم في كل المراحل بلغتها الأم، مع أنها لا تغلق الباب أمام اللغات الأخرى الأكثر شيوعاً بتعليمها لغة ثانية بل تشجع ذلك وتدعو إليه , كما هو الحال عندنا , كما أنها تترجم من كل اللغات الأجنبية الجديد والنافع من العلم إلى لغتها الأم، وقد كان هذا شأننا في الماضي، في العصور الإسلامية المتتابعة، فقد ترجم آباؤنا من اللغات الفارسية، واليونانية إلى لغتنا العربية ما هو باق حتى اليوم، وجميعنا يعرف كيف كانت حركة الترجمة والتعريب إبان العصر العباسي، وكيف ازدهرت الحضارة العربية آنذاك نتيجة هذا التفاعل الحضاري الحي، حتى ظهر من رواد علوم اللغة العربية والفقه علماء ليسوا عرباً في أصلهم، أليس مؤسس علم النحو والصرف (سيبويه) مثالاً حياً لذلك. لذا فإني أؤكد على ضرورة فتح أبواب العلم والتحديث أمام لغتنا الجميلة، لتنهل من كل جديد نافع، وحتى لا تكون بعيدة عما يدور حولها في عالمنا المتداخل المتسارع الخطا في العلم والتقنية فالعلوم على اختلاف مجالاتها هي ملك للإنسانية كلها. ** ** ** إن قيام (مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية) سوف يُعنى - بإذن الله - بمهام التعريب، بل إني أرى أن يكون التعريب في مقدمة ما يقوم به وينجزه؛ إذ إن ذلك يتفق مع أهدافه العظيمة التي نص عليها قرار إنشائه.. كيف لا ومجلس أمنائه مؤلف من رئيس وثمانية أعضاء من ذوي الاختصاص والمهارات العلمية والتميز والخبرة في مجال اللغة العربية وعلوم أخرى من داخل المملكة وخارجها (وذلك يعني أن يكون عضو المجلس متبحراً في اللغة العربية، ومتخصصاً في أحد فروع العلوم الأخرى). ** ** ** أعود وأؤكد أن اللغة العربية هي الهدف الأكبر الذي نسعى بشتى الوسائل إلى ترسيخ بنائه، وزيادة ثرائه، وجعله على علاقة بكل لغات الدنيا علماً، وتحديثاً، لأني مثل غيري من أبناء اللغة العربية مؤمن أن اللغة العربية هي الطريق المستقيم لحياتنا ومستقبلنا المأمول. ما أنكرت أمم لسان جدودها يوماً وسارت في طريق فلاح ** ** ** أكرر التحية والعرفان لكم يا خادم الحرمين الشريفين.. وأعلن الفرحة بهذا المركز العظيم للغة العربية، وأجدد دعوتي إلى أن يكون هذا المركز المبارك نواة لمركز موحد عملاق للتعريب على مستوى الوطن العربي، ولا يصدر شيء علمي مهم في اللغات الأخرى إلا ويترجم إلى اللغة العربية، ويترجم أيضاً ما تدعو المصلحة إلى ترجمته من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، ففي كل البلاد الكبرى المتطورة مراكز للترجمة، تترجم كل جديد نافع إلى لغتها القومية، وتبادر إلى نشره لسرعة الاستفادة به. ** ** ** إننا يجب أن نضع في حساباتنا دائماً أن اللغة العربية ذات صلة وثيقة بغيرها من اللغات ومن العلوم، واليوم، وقد غمرتنا فرحة إنشاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي شمل مسماه (الدولي) ما يؤكد صواب ما أدعو إليه من تبادل الأخذ والعطاء بين لغتنا وغيرها من اللغات. ** ** ** وبهذه المناسبة أكرر الدعوة وأجددها إلى ضرورة أن يثق القائمون على التعليم في مراحله كافة باللغة العربية، وأن تكون هي - واقعياً وعملياً - هي لغة التعليم في جميع مراحله، ولكل فروع المعرفة دون تهاون في ذلك؛ لأن لغتنا لا شك في أنها غنية قادرة على التعبير الدقيق عن كل فنون العلم والمعرفة، فهي بالتأكيد ليست أقل كفاءة أو منزلة من لغات أخرى أصر أصحابها على أن تكون هي لغة التعليم الأولى والمعاملات في كافة المؤسسات والجهات، وأقوى دليل عملي على ذلك إحياء إسرائيل للعبرية التي ماتت لمدة طويلة من الزمن فأحيوها، وجعلوها اليوم لغة تعليمهم، بما في ذلك التعليم الجامعي، وفي جميع التخصصات والبحوث العلمية، ومُصرين على إقحامها في كل تبادلاتهم مع أنها حديثة الإحياء. ** ** ** فتحية لك يا خادم الحرمين الشريفين، وعرفاناً باقياً مني ومن كل أهل اللغة العربية على ما سوف تزخر به حياتنا من ثمار هذا المركز الذي سيعيد - بإذن الله - فتح أبواب الحياة والقوة من جديد للغتنا العربية الخالدة. ** ** ** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.