من الحكايات الشعبية المأثورة التي تُروى شفاهيًا، حكاية بطلتها امرأة من البادية في إحدى مناطق الجزيرة العربية. وهذه الحكاية ترد بصيغ متعدّدة وتُنسب إلى مواضع أو قبائل تختلف باختلاف الرواية. وفكرة الحكاية أن فتاة تُركت في الصحراء ومعها جمل وبقايا متاع. وكانت تنتظر عودة أهلها (الأب والأخ) إليها، ولكن تأخّرهما حتى غروب الشمس جلب لها القلق في البداية، حتى إذا عمّ الظلام أرجاء المكان بدأت الشكوك تُساورها فظنّت أنّهما قد تركاها في هذه الصحراء للتخلّص منها. وتؤكد الروايات أنها ماتت، ويعود السبب في إحدى الروايات إلى شدة الجوع والخوف، وهناك من يروي أن الجمل هاج عليها وسحقها على شجرة اعتصمت بها. ويبدو أن ذاكرة الرواة قد جادت بشعرٍ قيل على لسان الفتاة، وهو شعر ربما يكون مقتبسًا من مواقف مشابهة أو مصنوعًا ليناسب الحالة. وقد تكون الحكاية كلّها منسوجة لكي تكون بمثابة مسوّغ منطقي للشعر. ومن المقاطع الشعرية التي تضمّنتها الحكاية البيتان التاليان: يا ويل حالي صرت مثل المجانين أصيح بأعلى الصوت والموت دوني الله يا ربي عسى الستر يتلين وش حالتي والليل والهمّ عوني وهذان البيتان يعبّران عن حالة الفجيعة التي تمرّ بها الفتاة. وبقدر ما تشعر بدنو منيّتها إلا أنها تجد أن ثمة أملاً لها في النجاة؛ ذلك أنها تصيح في محاولة لجلب النجدة، وتدعو الله أن يستر عليها بإنقاذها (وهو حسب الحكاية: عودة أهلها إليها) لكونها لاتستطيع مقاومة الليل بما فيه من ظلام وخوف والهمّ الذي رافقها ولم تستطع الفكاك منه. وثمة مقطع شعري آخر يقول على لسانها: وا تلّ قلبي مثل غصنٍ ايتلّي تقطّعت بالبين حاله وحالي تسعين لعنة كلّهن وقفنْ لي وتجمّعن مثل الجبال العوالي على كتوفي خيّمن وحفرنْ لي لحدْ الشقاوة والبلى والهبالي من عقب ماني صايمهْ بس أصلي أعرضت أنا من حرّ شيٍّ جرا لي ومن الواضح أن هذا المقطع يحكي الحالة النفسية المأزومة التي مرّت بها الضحية لدرجةٍ وصلت فيه إلى اليأس التام من النجاة، فقد تعطّلت قواها العقلية وانشلّت حركتها حتى فقدت قدرتها على التصرّف السليم. ومع أن المقطعين يعبّران بدقّة عن حالة نفسية سلبية، إلا أنّ المقطع الأخير كان ممثلا لفقدان الأمل بشكل نهائي، ولهذا فقد بقيت اللغة في مستوى وصفي راكد. وعند الوقوف على رؤية هذه الشخصية للعالم، سنجد أن لغتها تكشف عن مكوّنها العقلي والنفسي معًا، فالعويل والتبرّم الذي ظهر في المقطع الأول في عبارات مثل (ياويل حالي؛ ياربي؛ وش حالتي) يبيّن أن الشخصية قد وقفت في موضع واحد لم تتحرك منه. بمعنى أن المشاعر السلبية استقرّت وغطّت على الشخصية فأقفلت جميع الطرق أمامها ولم تعد ثمة نافذة أخرى يمكن رؤيتها سوى هذه النافذة القاتمة القائمة على الصياح والاستجداء. ويوضح المقطع الثاني الاستسلام التامّ للقهر، والانصياع الكلّي للوضع السلبي، فقد رأت نفسها تعيش الألم لحظة بلحظة، فترى قلبها يتقطّع مثل الغصن الذي يمزّق، ويفقد الحياة بمثل ما تفقد الحياة (وهي لاتزال حية). ثم تورد "اللعنة" باعتبارها أقسى ما يمكن تخيّله من أهوال، فترى العدد الهائل من اللعنات وقد تجمّعن كالجبال الشاهقة ووقفن على أكتافها ليحدّدن لها مصيرها المشؤوم (ما بين بلوى وفقدان للعقل وشقاء)، لدرجة لم تصبح قادرة على أداء واجباتها الدينية بالصورة التي كانت تقوم بها من قبل. ولو عدنا إلى الحكاية المربوطة بهذه الأبيات، وتأملنا دلالة أنها امرأة متروكة في الصحراء، فربما نفهم مايحيط بالنص (الحكاية والأشعار) من دلالات. ولأننا لانعلم على وجه اليقين هل تُركت الفتاة عمدًا أم أن أهلها (ربما يكونون أكثر من أب وأخ) ضاعوا عنها في ظل الصحراء الغامضة ذات الرمال المتلاطمة التي تُشبه بعضها بعضًا وتتقلب بين لحظة وأخرى فتزول معالمها السابقة وتتشكل لها معالم أخرى من جديد. وفي مثل هذه الظروف المتوقعة، سنجد أن تفسيرات الرواة من أنّ أهلها تركوها عمدًا وكذلك اعتقادها بأنها مهدّدة ربما يرجع إلى الصورة الذهنية التي أسّستها الحكايات الخرافية للفتاة التي يرغب أهلها في التخلّص منها لأسباب أخلاقية. ويحفل تراثنا الشعبي بأمثلة لهذا النوع من الحكايات التي تجعل الفتاة في موضع حسّاس للغاية لكي تُحافظ على شرفها من أنّ تدنّسه أقل هبّة ريح عابرة. على أن تحليل الأبيات السابقة وربطها بالثقافة الشعبية لدينا يحتاجان إلى وقفة أطول. ولكن، لأن المساحة المتاحة لهذه الزاوية انتهت، فإني أترك ذلك للقراء الكرام، مؤكدًا استفادتي من آرائهم ومقترحاتهم.