مع تقديري للجهد الذي قدمه الأستاذ عبدالعزيز الخضر في كتابه"السعودية: سيرة دولة ومجتمع .. قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية"، ومع تقديري لمتابعته للشأن الثقافي والإعلامي الدائبة والواضحة في قدرته على الرصد في كتاب يتجاوز عدد صفحاته 850 صفحة إلا أن أي قراءة لسيرة دولة ومجتمع خلال ثلث قرن تتطلب أدوات أخرى، ليس من بينها عدد الصفحات وطول الاستعادة والتكرار والتركيز على جانب وتجاوز جوانب أخرى، خاصة عندما يحمل الكتاب عنوان رصد وتحليل وقراءة تحولات فكرية وسياسية وتنموية خلال ثلث قرن!!. يقدم المؤلف قراءة مصدرها الأساسي إعلامي، وهو يرصد تحولات ثقافية مهمة، إلا أن الصوت الأعلى في تلك المرحلة طبع مجمل مفردات الكتاب الداخلية وشخصياته التي تناولها الكاتب، وهو يُحمّل تلك التحولات على قراءات تتوسل العقل، من العقل الديني إلى عقل الصراعات والعقل الإعلامي وبقية عقول أو فصول الكتاب. سأكتفي بما قرأته في فصول الكتاب، وأقدم ملاحظاتي هنا باعتبارها انطباعات قارئ، وليست ملاحظات دارس. يؤكد المؤلف في مقدمة كتابه أنه جاء "نتيجة معايشة واطلاع على تفاصيل المشهد المحلي وتحولاته التاريخية. وهي معايشة يومية لا توجد في زمن الحدث من دون تفاعل وتسجيل لانطباعات اللحظة في حينها فحسب. كثير مما كتب ليس قراءة أرشيفية متأخرة بأثر رجعي، أو تفسيرات لحظية وفق متطلبات المرحلة التي نعيشها هذه الأيام وليست متابعة انتقائية وفقا للتوجه الفكري". وكقارئ أرى أن هذا التوصيف غير دقيق، فما وجدته في فصل العقل الديني أو الإعلامي انطباعات تلازمت والأثر الذي خلفته حينها، أي أنها شاء الكاتب أم لم يشأ، قرئت بأثر رجعي لكن ضمن تحولات مرحلة. أما كونها ليست قراءة أرشيفية، فهي قراءة إعلامية أكثر مما هي قراءة تحمل منهجية يلتزم بها المؤلف - وهذا بحد ذاته لا يعيب القراءة طالما لم يقل الكاتب إنها دراسة لتحولات وفق رؤية يمكن محاكمتها على ضوء المنهج العلمي وأدواته - أما أنها ليست متابعة انتقائية فهي انتقائية فعلا، لأنها اقتصرت على ما يقع ضمن انشغالات المؤلف واهتماماته، وضمن عملية رصد تنتقي كُتابها -كما في العقل الإعلامي- كما تنتقي قضاياها. وليس ثمة مشكلة أن يكون التركيز في قراءة مشهد التحولات ضمن قضايا يُعنى بها المؤلف دون سواها، وتتعلق بشخصيات لها حضور بعقل الكاتب دون غيرها، المشكلة أن تحولات ثلث قرن لا يمكن أن تكون مجرد قضايا معينة وقراءات انطباعية تفرض حضورها في عقل المؤلف!! عندما نتحدث عن تحولات خلال ثلث قرن تطال السياسي والفكري والتنموي فنحن نتحدث عن مشروع جبار، يجب فعلاً أن يكون بمستوى عنوان باذخ كهذا. عقل التنمية هو أضعف فصول الكتاب، عقل التنمية يعني الفكر التنموي ومشروع تنمية أثر ولازم تحولات ثلث قرن. أين تأثير التنمية خلال ثلث قرن على سلم تحول الطبقات الاجتماعية، أين تحولات القيم الاجتماعية السائدة في سياق التأثيرات الاقتصادية، أين هي تلك القراءة التي يقدمها الكتاب حول الفكر التنموي الحكومي وآثاره ونتائجه؟ ولماذا تتحول قضية كبرى مثل الفساد إلى نتيجة مؤداها أن القوى الاجتماعية فشلت في قدرتها على كشف بنية الفساد وعوامل استدامته وركزت فقط على بعض مظاهره. أين هو تدخل الكاتب/المحلل في هذه المسألة الأكثر من مهمة. لماذا لم تكن مادة لتشريح عوامل وعناصر استدامة أكبر العناصر إنهاكا في بنية التنمية وحجبا لمكتسباتها؟ ولماذا تبدو جزءاً من قصة لا يقاربها مؤلف تحولات ثلث قرن، إلا ضمن سجالات النخب، التي تكاد تستولي على معظم قضايا الكتاب. الجانب التنموي يطال قضايا كثيرة تبدأ من طبيعة تكوين المشروع التنموي الذي صاحب الخطط التنموية منذ بداياتها، ويأتي أيضا من تحليل مصادر الثروة وكيف بدأت تظهر مراكز قوى اجتماعية واقتصادية جديدة، وما هي تأثيراتها في تحولات مجتمع؟ وكيف أثرت مرحلة الطفرة الأولى في منتصف السبعينيات على ثقافة مجتمع بأكمله، وماذا قدمت الطفرة الثانية، أين قراءة تحولات ونتائج ما بين الطفرتين؟ كيف بدأت الطبقة الوسطى تؤكد حضورها في مشهد السبعينيات وكيف انحسرت في منتصف التسعينيات. وكيف بدت مخاطر التنمية المتعثرة في معالجة سوق العمل أو التعليم أو قضايا البطالة وإطلالة مشكلة الفقر كأهم حدث خلال العقد الماضي على مجتمع كثيرا ما كان يوصف بالوفرة؟ لا يمكن قراءة عقل التنمية من خلال إشارات مقتضبة وسريعة. سوق الأسهم ليس هو المؤشر الوحيد على خلل في بنية اقتصادية وإدارية وتنظيمية طالت المجتمع، إلا أنه ربما كان الأكثر حضورا في الذاكرة. في السياق التنموي أيضا، من التجاوز إغفال المشهد العلمي وتكوين الكوادر السعودية المؤهلة علميا وتقنيا خلال ثلث قرن، كيف تبدو الجامعات السعودية بعد ثلث قرن؟ وكيف يمكن قراءة عقل الأكاديمي السعودي اليوم مقارنة بعقل أكاديمي السبعينيات، وكيف تبدو حرية البحث في الجامعات، وما هي مظاهر التحول في سلّم اهتمامات طلاب الجامعات، وكيف تبدو العلاقة بين أجيال البعثات الواسعة في منتصف السبعينيات وبين هذا العقد الذي استعاد مشروع ابتعاث أوسع ، ما الذي يجمع مشروعين وما الذي يفرقهما؟ العقل الاجتماعي ليس فقط أسير سجالات نخب ثقافية سواء من التيار الديني أو التيارات الأخرى تحت أي يافطة قدمت نفسها، العقل الاجتماعي يعيد أيضا صياغة منظومته القيمية الظروف الاقتصادية والمعيشية، وأنماط التعاطي بين فئات المجتمع، ومسألة الاعتراف الاجتماعي ومفهوم الانتماء والهوية الوطنية. هناك فئات اجتماعية ليس لها علاقة بسجالات نخب، فهي إما أنها تعيش في عالم صنعته لنفسها، علاقتها بالداخل علاقة تنمية مواردها ومكاسب تقاس بدقة وتجبى بفعالية، وبعضها يكاد يكون منفصلا عن قضايا الداخل سوى ما يمس مركزها الخاص "بالبيزنس" والثروة، وهناك مجتمع قاع المدينة حيث تعيش فئات اجتماعية لا تُعنى بشيء أكثر من بحثها عن موقع ينقلها من أسفل السلم الاجتماعي. كما أن أية معالجة لقضايا داخلية أثرت ومازالت في مسيرة ثلث قرن ومهما كانت حساسة ودقيقة، تتطلب أيضا من المحلل أن يكون منصفا ومتجاوزا للحذر في التعبير عن حق كل الأطراف في مشهد التحول. مسك العصا من الوسط، أو محاولات التبرير أو توزيع دم التراجع على قبائل التيارات الثقافية لن يقدم قراءة تحليلية ودقيقة ومنصفة، وستكون بشكل أو بآخر قراءة انتقائية لمشهد ثقافي وكأنه هو الوحيد المؤثر في تحولات ثلث قرن!!... إنها أيضا نوع من القراءة تعيد إنتاج أزمة الخطاب المقروء. من الفصول التي قرأتها بعناية فصل العقل الإعلامي، وأرى أنه لا يكفي المؤلف أن يقول "لا أقدم انطباعات متسرعة وإنما متابعات قديمة وبصورة يومية تعرفت من خلالها على أهم مراحل كُتاب الرأي والتحولات التي حدثت في الصحافة". إذ أراها متابعة ناقصة ومشدودة لأسماء إعلامية محددة، وربما لا يرى أثرا لسواها. ولذلك أتى الحكم "إن أكثرية كتاب الرأي فاشلة وخلقت انطباعا سيئا عنهم في الصحافة". من يتصدّ لإصدار أحكام من هذا النوع فعليه أن يكون أكثر دقة في متابعة كتاب الرأي، ومن الصعوبة أن نحكم على أكثرية فاشلة من خلال قراءة انطباعية للمؤلف. الحكم على الأكثرية بالفشل يحتاج متابعة للأكثرية، ورصدا لما يُكتب، وتصنيف ما يُكتب، وكشف جوانب الضعف والقوة فيما يُكتب. ولا يكفي أن يقول الكاتب إنه متابع بصورة يومية، عليه أن يتواضع ويقول انه مشدود لنوعية خاصة من الكُتاب، ومن خلال متابعتهم تشكَّل هذا الرأي لديه. الانشداد للصخب والضجيج الإعلامي لا يعني الأحقية، والذين خدمتهم الأضواء لا يعني أنهم الأكثر قدرة في متابعة تأتي ناقصة وأسيرة الوعي الثقافي المحكوم بالعلاقات بين النخب. متى كان كتاب الرأي أو الأعمدة مجموعة صغيرة أورد المؤلف بعض أسمائها باعتبارها شهادة على انجاز أو تراجع. تبدو لي بعض المتابعات انتقائية وضمن اهتمامات خاصة. لا أصادر حق المؤلف في رأيه أن هناك كُتاباً يجب أن ينصرفوا عن مهنة الكتابة لأنهم لم يحققوا نجاحا يذكر، لكن السؤال ما هي مقومات ومحددات النجاح ، هل هو الصدى الإعلامي والضجيج أم القراءة العميقة لإنتاج هؤلاء إلى مستوى تحليل المضمون ولمجموعة واسعة من إنتاجهم، وفق معايير يمكن الوثوق بها، قبل إصدار أحكام من هذا النوع؟ تلك انطباعات سريعة حول بعض فصول الكتاب التي عُنيت بها. وفي كل الأحوال أعتقد أن هناك جهدا كبيرا بذل في هذا الكتاب يستحق الاهتمام ومعاودة القراءة.