أطلت أخيراً الكاتبة والروائية اللبنانية ليلى بعلبكي في معرض بيروت للكتاب على قرائها اللبنانيين بعد غياب أكثر من ثلاثين عاماً عن الساحة الأدبية وعن الإعلام واللقاءات. جاءت بعلبكي في جناح دار الآداب التي أعادت إصدار أعمالها حيث أحدثت ضجة منذ منتصف القرن الماضي بداية من روايتها الأولى "أنا أحيا" الصادرة عن دار مجلة شعر 1958 (الطبعة الثانية عن المكتبة العصرية 1963)،فحوكمت الرواية بسبب جرأتها على مستوى الألفاظ والمضمون ونالت البراءة كاتبتها، ثم أصدرت مجموعتها القصصية الأولى والوحيدة "سفينة حنان إلى القمر" عن المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر 1963 (عناوين القصص : لم يعد صدرك مدينتي ، القطة ، حين تساقط الثلج ، صنين والجبل الآخر ، التجربة حذاء الأميرة الفضي ، لماذا لا تقع الحرب ، حديقة صغيرة ، الانفجار ، لا لن ينتهي الغضب ، كنت مهرة صرت فأرة ، سفينة حنان إلى القمر) وتعرضت للمنع من وزارة الإعلام اللبنانية مجموعتها القصصية «سفينة حنان الى القمر»، وكانت القصة التي تحمل المجموعة عنوانها هي الحافز نظراً الى احتوائها مقطعاً أو جملة وصفت ب «الإباحية». وحوكمت ليلى بعلبكي وأوقفت ثم تراجعت المحكمة عن قرار المنع مبرئة الكاتبة والقصة على مضض. وتولى مهمة الدفاع عن الكاتبة قانونياً المحامي والكاتب الراحل محسن سليم، ولكي لا يقال إن روايتها الأولى بيضة ديك ألحقتها برواية أخرى تحت عنوان "الآلهة الممسوخة" صدرت عن المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر 1965 ، وقالت في تقديمها : « قصدت بالآلهة الممسوخة أن تكون تجربة أدبيّة جديدة لي، وأن تكون ردا على النقّاد وعلى الذين اعتبروا «أنا أحيا» «بيضة الديك» وفهموا أنّه خواطر فتاة صغيرة وتفاصيل حياة خاصّة أعيشها شخصيّا». وشكلت رواية «أنا أحيا» بمثابة الحدث الروائي حين صدورها عام 1958 عن دار مجلة «شعر» التي أعلنت حينذاك أن هذه الرواية «سيكون لها أثر بعيد في مستقبل الرواية العربية». وكان هذا الإعلان لافتاً جداً في مضمونه أولاً وفي تبني مجلة «شعر» لعمل روائي، هي التي لم يشغلها سوى الشعر وحده. ولم تمض أشهر حتى راجت الرواية ولقيت نجاحاً كبيراً في الأوساط النقدية. ولم تلبث الرواية أن أصبحت أشبه ب «الظاهرة»، وكان يكفي ذكر «أنا أحيا» حتى ترتسم صورة بطلتها لينا فياض في أذهان الكثيرين، نقاداً وأدباء وقراء. ففي تلك الكتابة الروائية الجديدة رأى فيها ميخائيل نعيمة، بعد أن أطلق عليها كلمة «أسلوب»، في تعليقه على الكتاب، باعتبارها " ليست لأيّ كتاب غيره في الأدب العربي_ قديمه وحديثه". والناقد جبرا ابراهيم جبرا قرأ الرواية أيضا بعين من يقرأ الشعر ".. فيها غنائيّة لفظيّة رائعة تدنيها من غنائيّة الشعر". ويذكر في موسوعة «الكاتبة العربية» (المجلس الأعلى للثقافة في مصر) وفي الجزء الذي تناول الرواية النسائية اللبنانية اختارت الناقدة يمنى العيد «أنا أحيا» كأولى الروايات النسائية الحديثة واصفة إياها بأنها «شكّلت علامة بارزة على تطور الكتابة الروائية العربية في لبنان». هذه «المرتبة» التي احتلتها «أنا أحيا» سابقاً ما زالت تحتلها تاريخياً، فهي الرواية الأولى «الفضائحية» في المعنى الوجودي العميق التي تعلن تمرّدها أولاً على الإرث الروائي اللبناني (من زينب فواز الى توفيق يوسف عوّاد ومتجاوزة مجايليها سهيل إدريس وليلى عسيران) جاعلة مدينة بيروت إطاراً مكانياً، و «العصر» الحديث إطاراً زمنياً. وأعلنت ثانياً تمرّدها على الفن الروائي الكلاسيكي أو التقليدي وعلى مفهوم الشخصية الإيجابية وعلى النظام البنائي مانحة «الأنا» الراوية الفرصة لتتداعى بحرية وتوتر وتصبح المحور الرئيس الذي تدور حوله «الأحداث» وتنطلق منه. تقع لينا فياض بطلة الرواية في حبّ بهاء الطالب العراقي الذي يدرس في الجامعة الأميركية. فهو مناضل شيوعي في الخامسة والعشرين، وتعيش معه حالاً من الصراع الداخلي. تلتقيه في مقهى «العم سام» الشهير حينذاك في منطقة رأس بيروت وتداوم على لقائه. لكن العلاقة تنتهي سلباً وهجراناً ويأساً وقد اكتشفت فيه وجهه الآخر، الوجه الذكوري التقليدي الذي ينظر الى المرأة مثل بقية الرجال الذين تكرههم. ويقرأ الروائي حسن داوود سيرة لينا فيّاض، بطلة رواية " أنا أحيا "، بأنها لم تكن تعاني إلا الملل وسكون الحياة وفراغها في البلد الذي يبدو قليل الأزمات، بل عديمها. ذلك المكتب الذي تكتشف البطلة، بعد أن تبدأ العمل موظّفة فيه، أنه مكتب لنشر الدعاية الرأسماليّة ومكافحة الشيوعيّة، بدا أقلّ وجودا وأهميّة مما ينبغي له أن يكون. كأنّه وكالة سفريّات أو وكالة عاديّة للدعاية. وفي نزاعها معه، ومع نفسها، بسبب وجودها فيه، لا تجد لينا فياض بواعث لذلك النزاع تختلف عما تشعر به تجاه منزل الأهل الذي تقيم فيه، أو تجاه الجامعة التي تنتسب إليها. أحمد الواصل هذه المدينة، ودائما كما تظهر في «أنا أحيا»، خالية من كلّ ما هو مشكل يمكنه أن يكون محور رواية (على غرار ما جاءت به الحروب إلى الروايات التي صدرت خلال العقود التي تلت) . وبطل الرواية بهاء، الشاب العراقي (أو غير اللبناني) المنتسب إلى الجامعة الأميركية، لا تبدو مرارته مقنعة وكذلك حزبيته واضطراب شخصيته ونزوعه، في فقرات عابرة من الرواية، إلى الانتحار. كما لا يبدو انتسابه إلى الجامعة الأميركيّة متوافقا مع فقره، في ماضيه وحاضره، وليس مقنعا أيضا احتفاظه بتقليديته جنبا إلى جنب مع عقائديّته، بمعايير ذلك الزمن أقصد. يبدو بهاء هذا شخصيّة مستعارة للرواية، خليطا من تصوّرات عابرة ومتداخلة لا تصنع شخصيّة. ففيما يخصّ نزوعه إلى الفعل، أو إلى «التغيير» بحسب تعبير حزبي، لم توفّق الروائيّة إلا في جعله يتوهّم ما سيقوم به توهّما، كما لو أنه مراهق طامح لأن يكون منتسبا إلى حزب وليست الحزبيّة أولى صفاته. استغرب الشاعر والناقد عبده وازن أن هذه الكاتبة التي أطلّت بقوة ظلّت أسيرة هذه الرواية الفريدة واختتمت مسارها الروائي في عام 1960 عندما أصدرت روايتها الثانية «الإلهة الممسوخة» ولم تحظ بما حظيت به «أنا أحيا» من فرادة ونجاح. لكنها، هي التي لم تتوار لحظة عن المعترك الروائي، ما لبثت أن اختطفت الأضواء في عام 1964 عندما منعت وزارة الإعلام مجموعتها القصصية «سفينة حنان الى القمر»، وكانت القصة التي تحمل المجموعة عنوانها هي الحافز نظراً الى احتوائها مقطعاً أو جملة وصفت ب «الإباحية». وحوكمت ليلى بعلبكي وأوقفت ثم تراجعت المحكمة عن قرار المنع مبرّئة الكاتبة والقصة على مضض. وتولى مهمة الدفاع عن الكاتبة قانونياً المحامي الراحل محسن سليم الذي كان صلباً في مرافعته الشهيرة. واليوم تبدو تلك الجملة الإباحية خفيفة جداً نظراً الى النزعة الأروسية التي تجتاح الأدب الراهن، شعراً ورواية. لم تمتد تجربة ليلى بعلبكي أكثر من ستة أعوام عزفت بعدها عن الكتابة الروائية والقصصية منصرفة الى الصحافة. لكن روايتها «أنا أحيا» ظلّت تشغل النقد والإعلام. وكان جيل من الروائيات بدأ يبرز وفي طليعته الروائية المنتحرة منى جبور التي تأثرت ب «أنا أحيا» كثيراً، وبدا هذا الأثر بيّناً في روايتها «فتاة تافهة» (1962) من نواح عدة: اللغة، التداعي، التوتر، بناء الشخصية الرئيسة» ندى» التي تشبه شخصية «لينا» في «أنا أحيا». ولم تتوان عن استخدام عبارة «أنا أحيا» في روايتها مستوحية أحوال التمرّد والاحتجاج التي حفلت بها رواية بعلبكي. ولم تكمل منى جبور مسارها إذ أقدمت على الانتحار في عام 1964 وكانت في مقتبل العشرين من عمرها. وفي هذا الجيل برزت إميلي نصرالله عبر روايتها الرومنطيقية «طيور أيلول « (1962) وليلى عسيران من خلال روايتها «لن نموت غداً» (1962). ورأى الروائي حسن داود أن مدينة بيروت في «أنا أحيا» مدينة خالية مما اضطربت به في السنوات والعقود التي تلت. وهي على أيّ حال، قليلة الأمكنة على الرغم من كثرة الأجانب المقيمين فيها والقادمين إليها من مختلف البلدان. هناك المنزل طبعا، منزل الأهل الفخم، والوالد الذي يراكم ثروته من فساد تجارته، والوالدة والأختان اللتان ، باستثناء وصفهما الأوّلي، لم يُستدعيا مرّة أخرى للحضور في الرواية إلا من أجل أن يُعاد ما كان قد قيل في التعريف الأوّل بهما، وهذا كان شأن الأخ أيضا، الصغير المدلّل. إلى البيت هناك الجامعة، الموصوفة وصفا مقتضبا أيضا حيث تكتفي الروائيّة بأقلّ القليل منها مثل نظرات الطالبات لبعضهن البعض والمحادثات التي لا تكاد تصنع جُمَلا بينهن وبين سواهن من زملاء ومعلّمين. ثمّ هناك مكان العمل، أو مكان الوظيفة، المصنوعة تفاصيله كأنما من السماع العادي وليس من التعرّف والاختبار، كأن يُرمز إلى السرّية التي تقتضيها وكالات مثل هذه بصندوق أخضر موضوع في الطابق السفليّ يظلّ فارغا على الدوام. وبعد ثلاثة كتب وبعض المحاضرات والمقالات العابرة في المجلات. ستغادر ليلى بعلبكي منتصف السبعينيات بعد أن أشعلت حرائقها في السرد.. اشتعلت الحرب اللبنانية عام 1974 ، وذهبت.. ربما تتذكر بعلبكي أن صدور روايتها أنا أحيا عام 1958 هو ذاته كان البروفة الأولى للحرب الأهلية التي ستندلع بعد سنوات لم تطل. تركت بعلبكي الرواية وبيروت طويلاً، واليوم أعادتها من جديد.