كثيرا ما يردد الكتاب والمؤرخون أن الجزيرة العربية مرت بحقبة زمنية سادها الاضطراب وخيم عليها الجهل, فإذا سلمنا بهذا القول أغفلنا حقائق وتفصيلات عن حياة الناس, وظلمنا هذا المجتمع الذي لم يكن في يوم من الأيام مستسلماً لمعاناته, راكنا لدلالات الجهل, دافنا مكتسباته الثقافية. فالمدينة ربما أنصفها المؤرخون والرحالة, أما القرية والبادية فذلك ما أعنيه في هذا المقال, فإلى عهد قريب كان يعتقد أن هذه المجتمعات عادت إلى حياة الجاهلية الأولى والتي لم تكن جاهلية بهذا المعنى فقد ظهرت فيها أنظمة وقوانين وقيم تنظم حياة الناس, وتحميهم من الظلم. أما الفترة التي سبقت الوحدة الوطنية التي شهدتها البلاد منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله فقد أظهرت بعض المؤلفات الحديثة التي استهدفت القرية والبادية تفصيلات عن جهود الإنسان في صنع مجتمعه, ووضع ضوابط وأنظمة تساهم في تنظيم حياته في مجتمعه المحلي ومع المجتمعات المحلية الأخرى المجاورة له. كان من أبرز هذه المؤلفات كتب الأدب الشعبي بما تروى من قصص, وما تقدم من أشعار توثق كثيراً من الأحداث وتبين المعالجات التي يقوم بها العقلاء في هذه المجتمعات. أما أحدث الكتب التي تضع بين أيدينا هذه المجتمعات في تلك الفترة فتلك التي تقدم لنا وثائق صادرة من قضاة محليين, لم تعينهم الدولة وإنما اختارهم الناس لعلمهم وورعهم وحصافتهم, وأمضى الناس أحكامهم وتناقلوا أسماءهم واستدعوا خارج ديارهم لحل نزاعات هناك لم يتمكن قضاتها من الفصل فيها. وقد برز في هذا المجال الباحث القدير الأستاذ فايز البدراني, الذي تنبه إلى مصدر جديد من مصادر المعرفة فاستخرج منه تأريخا ثقافيا لم تدونه الكتب ولا ذاكرة الإنسان, والبدراني باحث أصيل في كل ما تناول وأبدع من إصدارات, فهو لا يعتمد على ذاكرة الإنسان التي قد يطرقها النسيان, وتخالجها الذاتية, بل اعتمد على الوثائق المدونة تدوينا وثائقياً بصدورها عن قضاة أو أهل حل وعقد أو الرسائل المتبادلة المعبرة عن مادة جادة, وصادرة عن مصدر مسؤول. كما يتمتع البدراني بصبر وجلد في البحث عن الوثائق ومن تم ترميمها فقراءتها, وتقديم خدمة لأصحابها باعادتها إليهم بعد إصلاح ما كان تالفاً منها. وقد أكسبته هذه المصادر دقة في البحث, ومعرفة بكثير من القضايا والأنظمة والعادات والتقاليد ومعارف شتى تضمنتها هذه الوثائق التي لم يعد كثير منها ذا أهمية في حياة أصحابها, بالأهمية المعرفية التي احتفظت بها هذه الوثائق. ولم يستأثر البدراني بهذه الحصيلة لنفسه بل طرحها للقارئ كما وردت مزودة بشيء من خبرته في تفسير المفردات الغامضة أو الكتابة غير الواضحة, وقام بتصنيف هذه الوثائق وفق مناطقها وموضوعاتها, وقد ظهر من هذه الوثائق مؤلفات له ضخمة مثل كتب التنظيمات وكتاب وثائق منطقة المدينةالمنورة ومنها وثائق وادي الفرع ووثائق وادي الصفراء وينبع, وهو يضع صورة الوثيقة وإلى جانبها كتابتها واضحة وجلية. إن هذا الإنجاز سبق إليه البدراني فأبدع فيه, وخدم الباحثين بما ضمنه من تفصيلات قدم بها الوثائق زمانها ومكانها وأطرافها حتى جاءت «قوقلا» يمدك بما تطلب من معلومات,و معظم هذه الوثائق تعود لأفراد كانوا يعيشون في القرية أو البادية المجاورة لها ممن يحتكمون إلى قضاة القرى. لقد كان القضاء في القرية شرعيا وأكثر القضاة من أسر يتوارثون القضاء توارثهم للعلم, فإن الابن يتلقى أمور القضاء عن أبيه القاضي, ويكتسب خبرة من حضوره جلسات القضاء مع أبيه, كما كان أكثر القضاة من أئمة المساجد الذين يقومون بتدريس أبناء القرية وقد يبرز فيهم من يصلح للقضاء, ولذا نجد كثيراً من الأسر من تسموا بالقضاة أو الفقيه, وهم الأمناء على سجلات القضاء, كما كان للعرف دور في فض بعض النزاعات التي يفصل فيها بما ألف الناس واختاروا من تنظيم وارتضوا من أحكام. إن القضاة في المجتمعات القديمة يحتلون مكانة رفيعة, وأحكامهم سارية, ولا راد لها إلا بحجة من الدين في قضائه, أو العرف في إمضائه, ولأهمية مكانة القاضي فقد جعلت بعض المجتمعات ديته مربعة في حال دفع الدية, ودفع ثلاث ديات في حال تنفيذ القصاص, وهذا مما يعزز دور القاضي ويحميه من التعديات, ويمضي أحكامه. ومما وقع في الماضي القريب أن خلافاً نشب بين ملاك قرية الجموم في وادي فاطمة, صعب الفصل فيه, لاتصاله بالعرف وأنظمة الري في القرية فاختار المتخاصمون قاضي الحربية «القرف» من بني سالم من حرب, لا أذكر اسمه الآن لأن القضاء في هذه الأسرة متوارث, وقد نبغ منهم قضاة كثر. قد «القرف» إلى الجموم واستوفى إجراءات القضاء المعتمدة في زمنه بين أهل القرى ومنها الالتزام بما يصدر القاضي من فصل في القضية, تقدمه الاطراف المعنية بالقضية, وحضور الشهود على الالتزام, ومن ثم إحضار الوثائق والأدلة التي لدى الخصوم ومن ثم الادعاء والإجابة. ولما كان شكل «القرف» لا ينم عن السمعة التي له لدى الناس فقد سمع لغطاً من بعض الحاضرين يحتقر شخصية «القرف» ويقلل من دوره, ويستبعد أن يكون فصله في القضية مقبولا, فإن قصر قامته, ونحول بدنه, وتواضع لباسه لا يدل على المكانة التي يتمتع بها بين القبائل, لاسيما وأن وادي فاطمة قريب من قضاة مكةالمكرمة, وبه من العقلاء ما يمكن أن يعهد إليهم للفصل في القضية. سمع «القرف» وأحس بما يدور في المجلس فقال موجهاً حديثه للمتحدثين: «لا تحقر زَوْلي حتى تسمع قولي, المنشار يقطع جذع النخلة, والزند يورى النار». وفصل في القضية بما قبل به الخصوم. أما علاقة القضاء في القرية والبادية بالأدب الشعبي فإن الناس كانوا يقدمون لطرحهم بعبارات مسجوعة وذات منطق أدبي, ويتحاشون المباشرة في الادعاء أو الرد, كما كان القضاة يختارون ما يناسب القضايا من الاستشهاد بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية, وأقوال مأثورة مما شاع في المنطقة ويذكر بما يسهم في تقريب وجهات النظر, أو يصرف المدعى عن المضي في ادعاء الباطل, ومن عبارات الادعاء قول أحدهم أمام القاضي والشهود وأطراف القضية: "ادعي أنا... على... أنه شد حذاه يوم الله ما هداه, والشيطان أغواه, وحط فرسي مغزاه, وقلع على القاضي شفاها وأغبا على ضواها, بعد ما استلم القاضي مداها. وأقول من عندك ومن عند جميع القضاه إنك توجب لي جنبية تمشي علباه, وإلاَّ من الحربية مجازاة, والا ترابيع تقفاه". يدعي أن خصمه سلب فرسه, وعند التحضير للقضية لدى القاضي ألقى المدعى عليه كلاما شفهياً وأخفى الحقيقة, وأن المدعي يطلب معا قبة المدعى عليه إما وضع علامة جارحة على علباء الخصم, أو مجازاته بقوانين قبيلة حرب. أما المدعى عليه فكان جوابه: "يمحق الله (...) وفرسه, يا قاضي لاني عليها عداي ولاني لها غزاي, أخذت فرس الجهني اللي عليها وجهي بعد شح علي ما له, وأنا وفرت حاله, رديت على الجهني حلاله, اللي لها حد محدود, ومعي عليها القاضي والشهود, وفضت على المدعي نهار حدها, ووجوب سدها, واختار الاقفا عن الوفا, فإن كان من المدا الذي يقول القاضي جاني فهو في ضمانة سابقة لها سنتين قصر عن ثمن الفرس. وقد كان حكم أو فصل القاضي بعد الاستماع إلى المتخاصمين وشهود كل منهما بقوله: "وهذا فصل ساعد بن مقبل القرف على أن لا بقي للمدعي... على المدعى عليه... من جهة الفرس الذي ادعى بها لا دعوى ولا طلب, ولا حق ولا سبب, من عندي" ويليه توقيع القاضي. هذا نموذج من الادعاء والإجابة والفصل في القضايا مما أورده الأستاذ البدراني في كتابه القيم وثائق تأريخية من منطقة المدينةالمنورة, القسم الأول "وثائق وادي الفرع – الجزء الثاني" من عام 1181ه - 1200ه. ويتبين من ذلك أدبيات التقاضي التي يتدرب عليها الذين يعرضون قضاياهم أو يدافعون بها عن أنفسهم, معبرين عن صدقهم أو جزعهم أو استغرابهم من أقدام الخصوم على الجناية, أو دفع التهم عن أنفسهم, ويعتقدون أن هذه الثقافة تساعدهم على تقبل القضاة وتعاطفهم معهم إحساساً بصدقهم, ولكن القضاة كانوا أكثر حرصاً على تحري الحقيقة والحكم بما يبرئ جانبهم من الميل والمحاباة. وللحديث صله.