منذ عهد المهندس محمد سعيد فارسي -أول أمين لمدينة جدة بعد تحويلها من بلدية إلى أمانة- والحديث عن حماية بيوت جدة التاريخية لا يتوقف، وكلما جاء أمين جديد لجدة تتجدد منه الوعود بحماية جدة التاريخية من الضياع والتآكل، وبيوتها من التساقط والتهدم، وزحف العمائر الخراسانية التي زحفت على جزء منها في غفلة من الزمن..ولكن رغم هذه الوعود وهذه الخطط التي يعلن عنها كل أمين عندما يجلس على كرسي الأمانة، ورغم إنشاء إدارة خاصة لجدة التاريخية منذ وقت طويل، وكلامها الذي لا يتوقف عن حماية جدة التاريخية والبرامج التي اعتمدتها لتحقيق ذلك، إلا أن كل هذه الوعود تظل مجرد حبر على ورق ولا أثر لها على الواقع، ونجد أن جدة التاريخية تفقد في كل عام العشرات من بيوتها التراثية بالهدم والحرائق نتيجة الإهمال وعدم الصيانة، ولم يخف الكثير من عشاق جدة التاريخية قلقهم من ماوصلت إليه بيوتها من خراب، إلى درجة أن قال أحد أبناء جدة القدامى متحسرا "عظم الله أجركم في جدة التاريخية".. البكاء على الأطلال الأسبوع الماضي ذهبت إلى منطقة جدة التاريخية لعلني أجد شيئا من التنفيذ لما ذكره لي قبل عام أو أكثر المهندس سامي نوار بأن إدارة حماية المنطقة التاريخية بأمانة جدة ستبدأ خلال فترة قصيرة من ذلك التاريخ في تنفيذ مشروع حضاري كبير لتأهيل المنطقة التاريخية من أجل نجاحها في الانضمام إلى منظمة اليونسكو كجزء من التراث الإنساني الذي يستحق رعاية اليونسكو، ولكن مع الأسف لم أجد شيئا مما قاله م.نوار قد تحقق، وما زالت المنطقة التاريخية تزداد كآبة وشحوبا وتتساقط بيوتها بيتا تلو الآخر، والذي لم يتهدم بعد يقف مترنحا لو اتكأت عليه لأنهار بسبب الإهمال والعبث. "تسونامي" السيول التي أغرقت أحياء شرق وجنوب جدة وعرت سوء التنفيذ لمشاريع الخدمات وضياع الكثير من الاعتمادات المالية التي رصدت لها تقابله كارثة أخرى تجتاح وسط جدة، وهذه الكارثة ليست ناجمة عن سيول أمطار جارفة وإنما عن إهمال الأمانة وتقاعسها عن تحويل وعودها للحفاظ على هذه المنطقة التاريخية النادرة من مجرد كلام وتصريحات إلى عمل حقيقي على أرض الواقع، يعيد لتلك البيوت التاريخية جمالها وحضورها، ويحمي البقية الباقية منها قبل أن تصبح مجرد أكوام من الحجارة نقف على أطلالها متحسرين على ذلك التاريخ المهم الذي لم نستطع حمايته والحفاظ عليه، بالإضافة إلى أن معظم ملاك تلك البيوت ومعظمهم اليوم من رجال المال والأعمال قد تجاهلوا قيمة هذه البيوت وتركوها دون أي اهتمام أو مساهمة في الحفاظ عليها لأنها لم تعد مربحة لهم ولم تعد تعني لهم شيئا. مجرد كلام الكثير من عشاق جدة التاريخية وبيوتها الحجرية وروا شينها الخشبية الجميلة وعبقها المشبع برائحة البحر وسحرها الزاخر بالذكريات وأزقتها المتعرجة بين بيوتها وأسواقها القديمة يحسون بالألم والحزن لما آلت إليه جدة التاريخية، يقول يوسف نور ولي من سكان جدة القدامى وأحد ملاك بيت نور ولي التاريخي في جدة القديمة إن الكثير من البيوت التاريخية المهمة قد تهدمت وضاعت والأمانة لا تفعل أكثر من الكلام والوعود التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والمفروض إذا كانت الأمانة جادة في الحفاظ على هذه البيوت فيجب أن تضع خطة عملية لذلك، خطة قابلة للتنفيذ لها ميزانية وليست مجرد دراسات تفضي إلى دراسات أخرى وبعد ذلك تحفظ في الأدراج ولا تتحقق منها أي فائدة، فمعظم هذه البيوت اليوم آلت لورثة، ومعظم الورثة لا يوجد لديهم استعداد لعمل شيء مالم يحقق لهم ذلك عائد، ولهذا إذا كانت الأمانة مهتمة بالحفاظ على هذه البيوت فعليها أن تتبنى مشروعاً عملياً وعاجلاً لتحقيق ذلك. د.سامي عنقاوي المعماري وعاشق التراث أبدى أسفه كذاك، مؤكدا على أن الحفاظ على هذه البيوت مسؤولية مشتركة بين المجتمع والدولة، والمسؤولية الأكبر يجب أن تكون من قبل أصحاب هذه البيوت، ولا شك أنه يجب أن يكون للأمانة دور مهم، وأن تتحول دراساتها في الحفاظ على بيوت جدة التاريخية إلى عمل جدي وملموس، مشدداً على ضرورة مشاركة ملاك وأصحاب هذه البيوت في الحفاظ عليها وحمايتها والعمل على بعث الحياة فيها من جديد، وأن يتخلصوا من هذه السلبية التي يتعاملون بها مع هذا الإرث الحضاري المهم، فالأمانة والهيئة العليا للسياحة وحدهما لايمكن أن يقوما بالحفاظ على هذه البيوت مالم يكون هناك تعاون من ملاكها ومعظمهم من القادرين ماديا للمساهمة في حماية هذا التاريخ من الضياع. مجرد فرجة الكثير ممن التقيت بهم من تجار جدة القدامى والذين لا زالوا يحتفظون بوجودهم في أسواق جدة التاريخية والذين مضى عليه زمن طويل يتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي كانت عليه هذه المنطقة عندما كانت عامرة بأهلها وبجمال بيوتها وحواريها، واليوم تبدل كل شيء وأصبحت هذه البيوت متهالكة مهملة تعشش في دهاليزها وأقبيتها وغرفها الفئران والعناكب والهوام، ويسكن في بعضها الكثير من الوافدين الذين زادوها خرابا وتشويها وكانوا السبب في احتراق الكثير منها، بينما أصحابها وملاكها غير عابئين بما أصبحت عليه ومعظمهم ينتظر متى تسقط هذه البيوت وتتهدم ليأتي ويقيم في مكانها الأبراج الخراسانية، ولهذا فإن معظم ملاكها يأتون إليها بين فترة وأخرى للفرجة ومعرفة هل حان يومها وسقطت أم لا يزال فيها قدرة على البقاء. د.جمال عبد العال عضو هيئة التدريس في قسم التخطيط بكلية تصاميم البيئة بجامعة الملك عبد العزيز أكد على ضرورة أن يتم وضع إستراتيجية منهجية عاجلة من أجل تدارك البقية الباقية من هذه المنطقة التاريخية، ويجب أن تعتمد هذه المنهجية على أسس محددة تساهم في وضع تسهيلات ومحفزات لتطوير هذه المنطقة، ويتم تبنيها من قبل الدولة والقطاع الخاص وإيجاد مصدر مالي قادر على توفير متطلبات الحماية وتحديد الأهداف والنشاطات التي تكون مناسبة للمنطقة سياحياً واقتصادياً وسكنياً، وكلما تعددت الأنشطة في المنطقة كان ذلك مفيدا وحافزا لأصحابها للاهتمام بالحفاظ عليها والمشاركة بفعالية في حمايتها.